بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم وترحيب :
أيها السادة المشاهدون ، سلام الله عليه ورحمته وبركاته ، وكل عام وأنتم جميعاً بألف خير ، أهلاً ومرحباً بكم في حلقة خاصة من برنامجنا الإيمان هو الخلق ، و كل السعادة وكل الغبطة أن نكون بمعية الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين بدمشق ، أهلاً وسهلاً ، وكل عام و أنتم بخير.
الدكتور راتب :
بكم أستاذ علاء ، وأنتم بخير .
الأستاذ علاء :
أستاذنا ، نحن كنا في مدرسة تعداد صفوفها أو أيامها ثلاثون يوماً ، وقسمت إلى ثلاث مراحل ، المرحلة الأولى العشر الأول الرحمة ، والعشر الثاني المغفرة ، والعشر الثالث كان فيه النتيجة العتق من النار ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام ، أوله رحمة ، و أوسطه مغفرة ، و آخره عتق من النار ، ثم أُتبع بيوم سمي بيوم الجائزة ، ألا وهو العيد ، العيد له مدلولات ، وله مفاهيم ، وله استهدافات ، منها النفسي ، ومنها المادي ، ومنها ما يتعلق بصلب هذا البرنامج ، و بعنوان هذا البرنامج : " الإيمان هو الخلق " ، لماذا كان العيد ؟ ولماذا شُرع العيد ؟ وما هي الأغراض من وراء العيد ؟
مدلولات العيد ومفهوماته :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ز
أستاذ علاء ، صعد النبي عليه الصلاة والسلام منبره فقال آمين ، الحديث طويل ، نأخذ منه فقرة واحدة ، فلما انتهت الخطبة قالوا : يا رسول الله ، علام أمّنت ؟ قال : جاءني جبريل فقال لي : رغم أنف عبد أدرك رمضان ، ولم يغفر له ، إن لم يغفر له فمتى ؟
1 – العيد خاتمة عبادة عظيمة :
معنى ذلك أن العيد في عالمنا الإسلامي يأتي عقب عبادة من أرقى العبادات ، فالذي أدى العبادة بالتمام والكمال ، و الذي صام رمضان إيماناً و احتساباً ، و الذي قام رمضان إيماناً واحتساباً ، والذي ابتعد في رمضان عن كل ما يسخط الله عز وجل ، ونوى أن يتابع هذه الاستقامة ليكون رمضان قفزة نوعية في سلوكه ، الذي فعل هذا يحق له أن يفرح ، فيغلب على العيد طابع السرور والسعادة .
2 – العيد أيام فرح وسرور :
ولكن كما أرى أن الفرح نفسه له منطلق فكري ، قل لي ما يفرحك أقل لك من أنت ، هناك من يفرح بالطعام ، هناك من يفرح بالشراب ، هناك من يفرح بجديد الثياب ، هناك من يفرح بشهادة عليا ينالها ، هناك من يفرح بعمل عظيم يقدره الله على يديه ، هناك من يفرح برضوان الله ، هناك من يفرح بأنه في طريق سعادته الأبدية ، فلذلك الفرح أنواع ، ولابد و نحن في هذا العيد أعاده الله على كل المسلمين باليمن والبركة ، لابد من أن نبحث في أصل الفرح ، و هذه عادتي في البحث عن الأصل العميق لما ينتاب الإنسان من مشاعر .
أستاذ علاء ، لحكمة بالغة قال تعالى :
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ﴾
[ سورة المعارج ]
﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً ﴾
[ سورة النساء : 28]
﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً ﴾
[ سورة الإسراء : 11]
الهلع والضعف والجزع من صفات الإنسان الجِبلِّية :
فالإنسان هلوع ، وعجول ، وضعيف ، وشيء يلفت النظر أن هذه نقاط ضعف في تكوينه ، ولا يحاسب عليها ، خلق الإنسان ضعيفاً ، و خلق عجولاً ، و خلق هلولاً ، إذا مسه الشر كان جزوعاً ، وإذا مسه الخير كان منوعاً ، الحقيقة هذه نقاط الضعف في أصل خلق الإنسان بمنزلة ما يسمى في الآلات بالفيوز ، وصلة ضعيفة جداً ، فإذا جاء تيار قوي لئلا يحرق الآلة ، وتخسر ثمنها ، هذه الوصلة الضعيفة تسيح ، وينقطع التيار ، وتنجو الآلة من العطب .
فهذه نقاط الضعف الثلاث التي في خلق الإنسان هي نقاط وقاية له ، أي عوامل أمان لأنه يخاف ، لأنه يجزع ، لأنه يحرص على ما في يديه ، لأنه يحب الشيء العاجل ، لأنه يشعر بالضعف ، إذاً : يبحث عن إيمان عظيم يقوي ضعفه ، يبحث عن إله عظيم يثبته ، يبحث عن إله عظيم يطمئنه ، يلجأ إليه ، يركن إليه ، يدعمه ، ينصره ، يوفقه ، هذا هو أصل التدين في الجنس البشري ، حاجة الإنسان إلى الدين كحاجته إلى الهواء ، لكن بين من عرف الإله الحقيقي ومن عبد حجراً أو شمساً أو قمراً أو بقرة فرق كبير جداً ، حتى الذي عبد الحجر هو يظن أنه ينجيه من الخطر ، أي يستقوي به :
﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً ﴾
[ سورة النساء : 28]
شقاء الإنسان باستغنائه عن الله :
من معبودات الإنسان الضعيف : الأبراج والتنجيم :
خلق ضعيفاً ليبحث عن إله عظيم يتقوى به ، يلجأ إليه ، يطمئنه ، يبشره ، يوفقه ، ينصره ، يدعمه ، حتى أولئك الذين ما عرفوا الله أصلاً يلجؤون إلى المنجمين عندهم خلل و ، قد يكون شخصية كبيرة في العالم الغربي يلجأ إلى منجم ، يقول له : ماذا سيصيبني ؟ والآن يوجد برامج كثيرة ، قضية الحظ ، و قضية التنجيم ، والأبراج .
الأستاذ علاء :
التنجيم والأبراج عند الأوربيين أيضاً ليس عندنا فقط .
الدكتور راتب :
معنى أن الإنسان خُلق ضعيفا :
هذه عبارة عن تلبية حاجة الأساسية في الإنسان هي الضعف ، لكن أهم نقطة أن الإنسان خلق ضعيفاً ، ولو خلق قوياً لاستغنى بقوته ، فشقي باستغنائه ، خلق ضعيفاً ليفتقر في ضعفه فيسعد بافتقاره .
الأستاذ علاء :
إذاً : باستغنائه يشقى .
الدكتور راتب :
يشقى :
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ﴾
[ سورة العلق ]
والحقيقة أن الدنيا إذا أقبلت على إنسان بمال وقوة وجمال ومكانة ينسى الله ، وحينما تزداد الضغوط على مجتمع ما هذا المجتمع يتجه إلى الله ، فتكون هذه الضغوط بشكلها الظاهر مؤلمة ، لكنها في نتائجها مسعدة ، لأن المجتمع الغارق في المتع الرخيصة ، الغارق في المعاصي والآثام ، والأمور ميسرة عنده ، يشعر بأمن ، يشعر بتفوق ، يشعر باستعلاء ، بغطرسة ، هذا المجتمع قد يستغني عن الله ، فيشقى باستغنائه ، بينما المؤمن حينما يشعر بضعفه يفتقر إلى الله فيسعد بافتقاره ، وحينما يشعر بقوته فيستغني بها عن الله ، فيشقى باستغنائه ، هذه حكمة أن الإنسان ضعيف ، وإذا دخلت إلى مسجد ، ورأيت آلافاً مؤلفة في المسجد أنا أعتقد ، ولا أبالغ أن تسعين بالمئة من هؤلاء الذين اصطلحوا مع الله بسبب ضعفهم ، وخوفهم من بعض المصائب ، بسبب خوفهم من شبح بعض المصائب اصطلحوا مع الله ، ولجؤوا إليه ، فأكرمهم الله .
إذاً : بالضبط ، كما لو أن ابناً في أمسِّ الحاجة إلى أبيه ، وأبوه عنده كل شيء ، فإذا أعطى ابنه مبلغاً يكفيه طوال حياته لن يأتي إليه إطلاقاً ، استغنى عن أبيه ، فكأن حاجة الإنسان إلى الله متجددة ، هذا معنى أنه خلق ضعيفاً .
معنى الهلع في الإنسان :
أما :
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ﴾
[ سورة المعارج]
كيف يؤدب الله الإنسان ؟ لأنه يخاف على صحته ، فإذا ظهر في التحاليل شيء مخيف ، ورم مثلاً ، نسبٌ زائدة ، يقلق أشد القلق ، يبادر إلى الصلاة ، هو خلق هلوعاً ، يقلقه جسده ، يقلقه دخله ، يقلقه عمله ، يقلقه من حوله ، إذاً قضية الجزع أيضاً طريق لتربية الإنسان ، لأنه يساق إلى باب الله .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ ))
[ البخاري ]
مراحل الدعوة الربّانية للإنسان :
من باب الطرفة ، مرة سألني أحدهم : ما ملخص دعوتك ؟ قلت له كلمتان : إما أن تأتيه مسرعاً ، أو أن يُؤتي بك مسرعاً ، فالبطولة أن تأتيه باختيارك ، بمبادرة منك ، وأنت محب له .
1 ـ الدعوة البيانية والموقف المناسب للعبد فيها :
بالمناسبة ، الله عز وجل حكيم ، يبدأ بالدعوة البيانية ، وأنت صحيح معافى ، في أعلى درجة من السعادة ، يدعوك الله إليه بكلمة ، بخطبة ، بلقاء ، بندوة ، بكتاب ، بصديق ، بنصيحة ، بموعظة ، يدعوك إليه ، فالبطولة في هذه المرحلة أن تستجيب ، فإن لم تستجب فهناك أسلوب أصعب ، يقول الطبيب للمريض : معك التهاب حاد في المعدة ، يشفى بالحمية ، فإن لم يستجب المريض ، وأجرى الحمية فهناك عمل جراحي ز
2 ـ التأديب التربوي :
المرحلة الثانية : التأديب التربوي :
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
[ سورة السجدة : 21]
3 ـ الإكرام الاستدراجي :
يعطيه الدنيا .
4 ـ القصم :
كل البطولة أن نستجيب لله بدعوته البيانية فالإنسان خلق هلوعاً .
الآن معه مال ، كيف يرقى إلى الله ؟ لو أن المال لا قيمة له عنده سيرقى إلى الله ، لكنه حريص على المال ، فإذا أنفقه ارتقى إلى الله ، أيضاً هذا لصالح إيمانه ، هذه نقاط ضعف لصالح إيمانه ، لماذا خلق عجولاً ؟ يحب الشيء الموجود ، يحب أن يعيش لحظته ، أما حينما يلغي اللحظة الحالية ، ويبحث عن هدف بعيد يخالف أصل تكوينه ، فيرقى بهذه المخالفة .
الأستاذ علاء :
أي يستعجل الأشياء قبل أوقاتها ، وقبل أن تحين ، وهذا في الجبلة ، أي في أصل تكوينه ، لكن إذا غالب هذه الأشياء ، ونظر إلى البعيد ارتقى بهذه المغالبة ، وبمغالبة هذا المسألة في أصل تكوينه .
نوع الفرح في العيد :
الدكتور راتب :
أنا أقول : في العيد نفرح ، لكن ما نوع هذا الفرح ؟ هناك فرح بسيط جداً ، يوجد طعام طيب ، و ثياب جديدة ، ولقاءات ، وعطلة ، هذا فرح بسيط جداً ، هذا الفرح من مستوى الأطفال ، أما المسلم فيفرح بطاعة الله ، يفرح برضوانه ، يفرح أنه في الطريق إلى الجنة ، يفرح أنه في طريق خدمة الخلق .
بين الفرح والسعادة واللذة :
إذاً : قضية الفرح والسعادة واللذة تحتاج إلى وقفة متأنية .
أستاذ علاء ، يمكن أن أفرق بين شيئين كبيرين : بين اللذة و السعادة ، اللذة إحساس مادي يأتيك من طعام طيب ، من منظر جميل ، من بيت مريح ، من جو مكيف ، من مركبة فارهة ، من امرأة جميلة زوجة ، هذه لذائذ كلها ، إلا أن هذه اللذائذ مكلفة ، البيت الجميل غال جداً ، والمركبة الفارهة غالية جداً ، والبحث عن حياة مريحة يحتاج إلى دخل فلكي ، المشكلة الكبيرة أن اللذائذ أولاً آنية ومتناقصة ، لو اشتريت بيتاً بمبلغ فلكي أول أسبوع يختل التوازن من الفرح ، لكن بعد شهر يصبح البيت عاديا جداً ، هكذا في البيت والمركبة والزواج والدخل والطعام الطيب والثياب ، هذه الأشياء المادية لحكمة بالغة لم يسمح الله لها أن تمدك بشعور مستمر ، بل متناقص ، فإن كانت في معصية وعلى حساب الآخرين يعقبها كآبة ، وكل شخص منا بعد الزواج ، وبعد فترة طويلة يصير الزواج شيئاً عادياً ، المركبة ، البيت ، الشهادة العليا ، لقب دكتور ، هذا كله بعد حين يصبح شيئاً عادياً ، من أجل أن نتعلق بالهدف الكبير الذي خلقنا من أجله .
الوقت والصحة والمال :
النقطة الدقيقة والطريفة أن هذه اللذائذ تحتاج إلى شروط ثلاثة ، تحتاج إلى وقت ، و إلى صحة ، و إلى مال ، ولحكمة بالغة دائماً ينقص الإنسانَ أحدُ هذه الشروط ، ففي البداية الصحة جيدة ، والوقت كاف ، لكن لا يوجد مال ، و المواد تحتاج إلى مال ، في منتصف العمر يوجد صحة ، ويوجد مال ، لكن لا يوجد وقت ، على رأس عمله دوام مستمر ، في خريف عمره سلّم أولاده المعمل ، يوجد وقت ، ويوجد مال ، لكن لا يوجد صحة .
الأستاذ علاء :
لذلك دائماً هذه الأسس الثلاثة واحد منها غائب .
الدكتور راتب :
من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه ، وهو لا يشعر ، خذ من الدنيا ما شئت ، وخذ بقدرها هماً .
الأستاذ علاء :
سيدي ، تسمح لي إن تفضلت ، ونحن في العيد ، تكلمت عن اللذة ، نأتي إلى مبعث الفرح من السعادة ، السعادة تسمح لي أن أقدم لك هذا المثال العملي الذي ودعناه قبل أيام ، موائد الرحمن في المسجد الأموي التي تنصب يومياً على مائدة الإفطار ، بدأت بثلاثمئة صائم ، انتهت بحوالي تسعة عشر ألفاً من الصائمين يومياً على موائد الرحمن ، كانت تفترش رواق الجهة الغربية ، ثم الصحن بكامله ، وكل الأروقة الذين يقومون على هذا العمل المتطوعون من أهل الخير ، سعادتهم عندما كنت ألتقي بواحد منهم هو يدفع المال ، ويخدم الصائم ، ويعين العمال والمشرفين ، يقول لي : أنا أسعد إنسان الآن ، أنا ما شعرت بهذه السعادة طوال عمري ، رغم أنه لديهم من المال والإمكانات ما يستمتعون بها ، ليس في سورية ، في دول أوربا ، وفي دول اسكندنافية ، لكن هنا في هذه الموائد قال : لم أشعر بمثل هذه السعادة في حياتي ، يمكن أن تشرح لنا ما هذه الحالة يا سيدي ؟
مبعَث السعادة في الفرح :
الدكتور راتب :
أستاذ علاء ، الحقيقة أن الإنسان نفس وجسد وروح ، الجسد وعاء النفس ، والروح قوة محركة ، أما النفس فهي ذات الإنسان ، هي التي تشعر ، هي التي تسعد ، هي التي تشقى ، هي التي تخاف ، هي المكلفة ، هي المحاسبة ، هي المعاتبة ، هي ذات الإنسان ، هذه النفس بشكل قطعي سعادتها بالقرب من الله ، كما تفضلت هذا الذي يدفع من ماله الشيء الكثير ، ويجهد بتقديم الطعام لهؤلاء الصائمين ، لأنه في طرق رضوان الله تأتيه من الله سكينة وسعادة لا توصف .
أنا أقول دائماً : هذا الذي يدخل إلى ملهى لماذا يدخل ؟ هو يتوهم أن لذته في هذا الدخول ، يبحث عن لذة ، ومشروب ، وراقصة ، و مغنٍّ ، لكن لو عرف هذا الإنسان أنه إذا مشى في طاعة الله تجلى الله على قلبه بسكينة يسعد بها ، و لو فقد كل شيء ، ويشقى بفقدها ، ولو ملك كل شيء .
إذاً : إن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خَلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين ، يؤكد هذا المعنى قول الله عز وجل :
﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾
[ سورة الرعد : 28]
قلبُ النفس وقلب الجسد :
قلبُ النفس ليس قلب الجسد ، قلب النفس :
﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾
[ سورة الأعراف : 179]
قلب النفس لا يطمئن إلا بذكر الله ، وإذا رأيت واحداً في الأرض سعيداً بالمعنى الحقيقي ، وهو بعيد عن الله فهذا شيء يبدو مستحيلاً :
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ﴾
[ سورة طه : 124]
هذه هي حقيقة السعادة :
قال أحدهم : ما بال الأغنياء معهم ملايين مملينة ؟ ما بال الأقوياء بيدهم كل شيء ؟ فأجاب بعض العلماء : " ضيق القلب " ، ففي قلب المعرض عن الله من الضيق والقلق والخوف والهم والتشاؤم والإحباط ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم ، وفي قلب المؤمن من السعادة والسكينة ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم .
بعضهم قال : ماذا يفعل أعدائي بي ؟ بستاني في صدري ، إن أبعدوني فإبعادي سياحة ، وإن سجنوني فسجني خلوة ، وإن قتلوني فقتلي شهادة ، فماذا يفعل أعدائي بي ؟
بل هذا العالم نفسه قال : " في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ، هي جنة القرب " :
فلو شاهدت عيناك من حسننــا الذي رأوه لما وليــت عنا لغيرنا
و لو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجــب وجئتنا
و لو ذقت من طعم المحبـة ذرة عذرت الذي أضحى قتيــلاً بحبنا
ولـو نسمت من قربنا لك نسمة لمـــت غريباً واشــتياقاً لقربنا
أطع أمرنا نرفع لأجـلك حجبنا فإنا منحنا بالرضا من أحـبنـــا
و لذ بحمانا واحـتــم بجنابنا لنحميك مما فيه أشرار خلقــنــا
و عن ذكرنا لا يشغلنك شاغـل و أخلص لنا تلقى المسرة و الــهنا
***
أستاذ علاء ، السعادة لا يعرفها إلا من ذاقها ، هناك نص أنا لست واثقاً من تصديق المستمعين والمشاهدين له ، لكنه واقع :
هناك ملكٌ اسمه إبراهيم بن الأدهم ، كان ملكاً ، فاعتزل الملك ، وصار عارفاً بالله ، قال : ـ أنا أصدق هذا الإنسان وحده لأنه كان ملكاً ـ قال : " لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف " .
الأستاذ علاء :
من اللذة و السرور .
الدكتور راتب :
أنت مع الله ، وتخشى أحداً ؟ أنت مع الله ، وتخشى الفقر ؟ وتخشى الظلم ؟ يا رب ماذا فقَدَ من وجدك ، و ماذا وجد من فقدك ؟ و إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ إذا كان الله معك يسخر عدوك ليخدمك ، و إذا كان عليك يسمح لأقرب الناس إليك بالتطاول عليك ، فالسعادة أولاً : تتنامى ، وثانياً : لعلها تتصل بنعيم الآخرة .
الأستاذ علاء :
هل هي مرسال لنعيم الآخرة ؟
السعادة نموذج لدخول الجنة :
الدكتور راتب :
نعم ، هي نموذج لدخول الجنة ، في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ، لأن الله هو الجمال المطلق ، نحن نتمتع بالطعام لأنه طيب ، نتمتع بالمنظر الجميل ، نتمتع بالنسيم العليل ، بالصوت المريح ، بامرأة زوجة جميلة ، هذه مسحة جمال من الله ، فكيف إذا اقتربت من مطلق الجمال ، لذلك هؤلاء الصحابة فعلوا المعجزات ، إذا دخل حبُّ الله عز وجل إلى قلب الإنسان فأي شخص كمليون ، أنا لا أصدق أن يستجير سيدنا خالد بسيدنا الصديق ، كان هناك معركة بنهاوند ، معه ثلاثون ألفا ، واجه ثلاثمئة ألف ، طلب النجدة منه ، بعث له بواحد ، هو القعقاع بن عمرو ، قال له : أين النجدة ؟ أين المدد ؟ قال له : أنا ، قال له : أنت ؟ معه كتاب ، يقول فيه : يا خالد ، والذي بعث محمداً بالحق إن جيشاً فيه القعقاع لا يهزم .
المسلمون الآن مليار وأربعمئة مليون مسلم ، لأنهم ما دخل الحب إلى قلوبهم ، وعندهم مشكلة كبيرة في حياتهم ، يصيبهم الوهن .
عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ، فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ ، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ : حُبُّ الدُّنْيَا ، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ))
[ أبو داود ]
لذلك :
(( لن تغلب أمتي من اثني عشر ألفاً من قلة ))
[ الجامع الصغير ]
يجتمع في أي مسجد عشرة آلاف ، لن تغلب أمتي ، لأن المعركة بين حقين لا تكون ، لأن الحق لا يتعدد ، وبين حق وباطل لا تطول ، لأن الله مع الحق :
﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾
[ سورة البقرة : 249]
أما بين باطلين فلا تنتهي .
حينما ننحي الإيمان ، والصلة بالله فلأقوى ينتصر ، الذي معه سلاح متطور ينتصر .
الأستاذ علاء :
إذاً السعادة شيء من الداخل وتزيد .
وسائل السعادة بيد كل إنسان :
الدكتور راتب :
ووسائلها بيد كل إنسان ، اللذة تحتاج إلى مال ، الليلة بفندق اثني عشر ألف دولار .
الأستاذ علاء :
السعادة بيد كل إنسان ، فقير وغني ، كبير وصغير ، يستطيع أن يكون سعيداً إذا ما تلمس الطريق إلى ذلك الجمال المطلق .
الدكتور راتب :
بمجرد أن يصطلح مع الله أزيحت عنه هموم كالجبال ، قال تعالى :
﴿ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾
[ سورة طه]
أي أن تكون لك علاقة مع الله ، هو القوي ، هو الغني ، أعداؤك بيده ، من حولك بيده ، من فوقك بيده ، من تحتك بيده ، صحتك بيده ، الزوجة بيده ، الأولاد بيده ، بيده كل شيء .
الأستاذ علاء :
سيدي ، ونحن نعيش أيام الجائزة ، العيد الذي جاء جائزة بعد صيامنا وقيامنا إن شاء الله ، وهذا العيد الذي سنّ فيه الصلاة والتكبير ، ولكي يتزاور الناس ، ويلتقي الناس ، ولكي يلبس الناس أفضل ثيابهم ، ويتعطرون إلى مساجدهم ، ويزورون قبورهم ، بالتالي هنالك مسائل تتطلب منا وقفة عند صلة الأرحام ؟
حقيقة صلة الأرحام :
الدكتور راتب :
أستاذ علاء ، أنا يؤسفني أن تمسخ هذه العبادة التعاملية إلى اتصال ، أو إلى زيارة عابرة ، أو إلى وضع بطاقة ، أنا أتصور صلة الأرحام شيئا آخر :
أولاً : أن تزور أرحامك ، أما أن تكتفي بالزيارة ، ولا تفعل شيئاً فليست صلة أرحام ، ينبغي أن تتفقد أحوالهم ، ينبغي أن تمد لهم يد المساعدة ، في أحوال المعيشية ، في الأحوال التربوية ، في الأحوال الأخلاقية ، في الأحوال الاجتماعية ، في الأحوال الدينية ، في الأحوال العلمية ، هؤلاء أرحامك ، بل إن التضامن الاجتماعي في الإسلام بني على أساس النسب ، فأن تتفقدهم ، أن تساعدهم ، أن تأخذ بيدهم إلى الله ، و المجتمع المسلم مجتمع متماسك هل .
تصدق أستاذ علاء أن زكاة الإنسان المسلم لا تقبل ، وفي أقربائه محاويج ؟ الأقربون أولى بالمعروف ، فنحن حينما نتفقد أحوال بعضنا بعضاً نفلح ، لذلك قال تعالى :
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ﴾
[ سورة التوبة : 103]
تطهر الغني من الشح ، والفقير من الحقد ، والمال من تعلق حق الغير به .
الآن :
﴿ وَتُزَكِّيهِمْ ﴾
[ سورة التوبة : 103]
إذا تفقد الإنسان أرحامه ، ووصلهم ، ومنحهم من عطائه يشعر أنه فعل مع الله شيئاً عظيماً ، تنمو نفسه ، إذا قام إنسان بعمل كما تفضلت قبل قليل ، هذا الذي أطعم العشرين ألفا ، ويتعب ، لماذا هو متألق جداً ؟ يشعر بقيمته عند الله ، يشعر أن الله يحبه ، يشعر أن خالق السماوات والأرض راض عنه :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾
[ سورة مريم : 96]
هذا الود لا يقدر بثمن ، أحياناً يكون إنسان شخصا مهما ، قال له : هذا هاتفي ، يذكرها للناس ألف مرة ، فكيف إذا كان خالق السماوات والأرض يحب هذا العبد ؟ هذا يحتاج لعمل صالح ، فلذلك نحن بالعيد يجب أن نصل أرحامنا ، أن نزورهم ، أن نتفقد أحوالهم ، أن نساعدهم ، أن نأخذ بيدهم إلى الله ، أصبحت هذه العبادة الاجتماعية التعاملية دعوة إلى الله .
الأستاذ علاء :
خاتمة وتوديع :
لا يسعني إلا أن أشكر الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين بدمشق ، و أقول لك : كل عام وأنتم بخير ، وكل من يشاهد ، ويسمع بألف خير ، الله يجعل هذا العيد عيداً حقيقياً نتأسى به ، و نتأسى بما وجد من أجله ، وأن نقيم ما طُلب منا من خلال شهر رمضان ، ويوم الجائزة ، وهذا العيد لنكون أمة متكافلة متعاضدة متراحمة ، ونفهم الكفل بكل معنى الكلمة والتكافل ، شكراً جزيلاً ، وإلى اللقاء ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
والحمد لله رب العالمين