ثقافة العلوم الكونية في الخطاب الإسلامي بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2006-01-01
ماهية الدين ؟
الدين هو بيان من الله تبارك وتعالى للإنسان في القضايا التي يعلم ربنا تبارك وتعالى بعلمه المحيط عجز الإنسان عجزا كاملا عن وضع أية ضوابط صحيحة لنفسه فيها ، وذلك من مثل قضايا العقيدة ، والعبادة ، والأخلاق ، والمعاملات .
وهذه القضايا التي تشكل الركائز الأساسية للدين هي إما من أمور الغيب المطلق التي لا سبيل للإنسان في الوصول إلى أي منها إلا عن طريق وحي السماء كقضية العقيدة ، أو هي من الأوامر الإلهية المطلقة كقضية العبادة ، أو هي من ضوابط السلوك كقضايا الأخلاق والمعاملات ، والتاريخ يؤكد لنا عجز الإنسان عن وضع الضوابط الصحيحة لنفسه في أي من هذه الركائز الأربع ، ومن هنا كانت ضرورة الدين ، وضرورة أن يكون وحيا سماويا خالصا دون أدنى قدر من المداخلات البشرية .
وهذا الدين السماوي علمه ربنا تبارك وتعالى لأبينا آدم عليه السلام لحظة خلقه حين عرفه من هو ؟ ومن خالقه ؟ وما هي رسالته في الأرض ؟ وكيف يمكن له تحقيق هذه الرسالة على الوجه الذي يرضي خالقه ؟ وما هو مصيره بعد هذه الحياة ؟
وهذه الأسئلة الكلية تتردد في نفس كل إنسان ، قلت ثقافته أو زادت ، وإذا لم يجد الإجابات الشافية عليها لا يمكن له أن يحيا حياة سوية على هذه الأرض ، ولا أن يحقق رسالته في هذه الحياة ، لذلك كلف الله تعالى أبانا آدم عليه السلام تعليم زوجه وبنيه ركائز هذه الهداية الربانية ، وأفهمهم حقيقة رسالة الإنسان في هذه الحياة : عبدا لله يعبده بما أمر ، ومستخلفا في الأرض مكلفا بعمارتها وإقامة عدل الله تبارك وتعالى فيها . وكلما عاشت البشرية بهذه الهداية الربانية سعدت وأسعدت ، ولكن لما كان في الإنسان ميل إلى النسيان ، وإمكانية التعرض لنزغات الشيطان الذي يسعى دوما إلى إخراجه عن منهج الله تبارك وتعالى ، وإلى إغوائه بالشهوات الحسية والرغبات المادية غير المشروعة حتى يفقد هذه الهداية الربانية ، فإن المجتمعات الإنسانية ظلت تتردد بين نور الهداية الربانية وظلام الجاهلية عبر تاريخها الطويل . وكان الناس كلما انحرفوا عن وحي السماء مع بقائه بين أيديهم أرسل الله تبارك وتعالى أنبياءه ليردوهم إلى نور الهداية الربانية ، ولكن إذا كانت رسالة السماء قد ضاعت أو تعرضت لقدر من التحريف الذي يخرجها عن إطارها الرباني ويجعلها عاجزة عن هداية الناس أرسل الله تبارك وتعالى نبيا رسولا بنفس الرسالة ومن نفس المصدر ليرد الناس إلى الهداية الربانية من جديد .
وقد استغرقت عملية هداية الله تبارك وتعالى لعباده مائة وعشرين ألف نبي ، اصطفى الله سبحانه وتعالى منهم ثلاثمائة وبضعة عشر رسولا ، كان خاتمهم أجمعين : النبي والرسول الخاتم ، سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم . ولما كانت رسالته هي الرسالة الخاتمة بمعنى أن ليس من بعده نبي ولا رسول ، فقد تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظها فحفظت في نفس لغة وحيها – اللغة العربية – وحفظت حفظا كاملا على مدى الأربعة عشر قرنا الماضية ، وقد تعهد ربنا تبارك وتعالى بحفظها حفظا مطلقا حتى تبقى شاهدة على جميع الناس إلى قيام الساعة فقال عز من قائل : " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " (الحجر:9) .
وعلى ذلك فإن القرآن الكريم يمثل الصورة النهائية للهداية الربانية للناس كافة ، والمحفوظة في نفس لغة الوحي – اللغة العربية – والمحفوظة على مدى يزيد على الأربعة عشر قرنا دون أن يضاف إليها حرف واحد ، أو أن ينقص منها حرف واحد وهو أمر معجز ، لم تتمتع به صورة من صور الوحي السابقة أبدا ، وقد ترك حفظها لأصحابها فضيعوها ، ووكل إصلاح الناس من بعدها إلى نبي آخر أو رسول آخر . ولكن لما كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين ، كان حفظ رسالته من بعده تحقيقا للعدل الإلهي الذي عبر عنه ربنا جل وعلا بقوله العزيز : " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً " (الإسراء: من الآية15) .
وكذلك قال تعالى وقوله الحق : " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ "(آل عمران:19) .
وأكد سبحانه وتعالى هذه الحقيقة في مقام آخر من نفس السورة الكريمة فقال عز من قائل : " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ "(آل عمران:85) .
هل يقبل دين الإسلام العيش مع الآخر ؟
انطلاقا من إيمان المسلم بوحدانية الخالق سبحانه وتعالى فإنه يؤمن بوحدة رسالة السماء وبأخوة العقيدة بين الأنبياء ، وأخوة الدم بين جميع بني آدم ، وفي ذلك يقول ربنا تبارك وتعالى في محكم كتابه : " آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ "(البقرة:285) .
ويقول سبحانه وتعالى :" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً" (النساء:1) .
ويفسر المصطفى صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله الشريف : " إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، وجاء بنو آدم على قدر الأرض : فجاء منهم الأحمر ، والأبيض ، والأسود ، وبين ذلك ، والسهل ، والحزن ، والخبيث ، والطيب " (الأئمة : أحمد ، أبو داود ، الترمذي ، البزار ، ابن حيان) .
كذلك يؤمن المسلم بكرامة الإنسان التي أكدها القرآن الكريم بقول ربنا تبارك وتعالى :
" وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً " (الإسراء:70) .
ومن سمات هذا التكريم للإنسان حرية الإرادة وحرية الاختيار التي على أساس منها سوف يكون جزاؤه في الآخرة ، والتي وصفها ربنا جلت قدرته بقوله العزيز : " إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً "(الأحزاب:72) .
وعلى ذلك فإن الدين في الإسلام اختيار فردي قائم على القناعتين القلبية والعقلية الكاملتين دون أدنى إكراه أو إجبار لأن فرض الدين على الناس بالقوة يحولهم إلى منافقين ، والله تعالى يكره النفاق ويبغض المنافقين وفي ذلك يقول عز من قائل : " لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "(البقرة:256) .
ويقول بنا تبارك وتعالى آمرا خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم أن يخاطب عبدة الأصنام والأوثان بقوله : " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ " (الكافرون) .
وقد تعايش المسلمون مع غيرهم من أصحاب المعتقدات الأخرى عبر الزمن دون أدنى قدر من الإكراه أو الإجبار لغيرهم إطلاقا من إيمانهم بالله تعالى وبالأخوة الإنسانية ومن يقينهم بحرية الإنسان في اختيار الدين الذي يدين به نفسه لله ، وبأن هذه الحرية هي جزء من إرادة الإنسان التي منحه إياها الله بناء على اختياره ، ولا يجوز سلبها منه أبدا . وهذا الموقف لا يتعارض مع الإحساس بأن من حقوق الأخوة الإنسانية دعوة الآخرين إلى دين الله الحق بالكلمة الطيبة ، والحجة الواضحة ، والمنطق السوي ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، كما أمرنا ربنا تبارك وتعالى دون أدنى إكراه أو إجبار أو مساومة ، ودون أدنى قد من استغلال الظروف القاهرة من الفقر أو الجهل أو المرض أو الكوارث والحروب وظروف الحاجة بصفة عامة وذلك انطلاق من قول ربنا تبارك وتعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(النحل:125) .
وانطلاقا من قول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم " (الإمام البخاري) .
وعلى ذلك فإن المسلم يتعايش مع غير المسلم ، انطلاقا من إيمانه بحق الآخر في اختيار معتقده ، ويعرض عليه دينه في غير إكراه ولا إجبار هداية له ، وحرصا عليه انطلاقا من استشعاره بحقيقة الأخوة الإنسانية التي تجمع البشر في أسرة واحدة ينتهي نسبها إلى أبوينا : أدم وحواء عليهما من الله السلام ، ويناقش معه قضية الدين بالحكمة والموعظة الحسنة ، لأن المناقشة العلمية المنهجية الصحيحة للدين بركائزه الأربع الأساسية : العقيدة ، والعبادة ، والأخلاق ، والمعاملات أصبحت ضرورة من ضرورات تعارف الناس في عالم قد تحول إلى قرية كبيرة فيها مختلف الأعراق والمعتقدات ، وتتفاعل فيها الحضارات في تكامل من أجل صالح البشرية جمعاء .
ماهية العلوم ؟
تعرف العلوم لغة بأنها مجموع ما علمه الإنسان من حقائق ومعارف وأخبار تجمعت له عبر الزمن ، في مختلف الأمان والعصور ، مرتبة حسب ما تتعلق به من أمور . ويشمل ذلك كلا من المعارف الموهوبة التي علمها الله تعالى لأبينا آدم عليه السلام لحظة خلقه ، وورثها لبنيه من بعده ، كما يشمل المعارف المكتسبة والتي جمعها الإنسان عبر العصور من تجاربه في هذه الحياة ، ومن استقرائه لسنن الله في الكون ، ومحاكاته لما أوجد الله تعالى فيه من خلق . ويشمل ذلك هداية الله سبحانه وتعالى التي أنزلها على سلسلة طويلة من أنبيائه ورسله ، وأكملها وأتمها في القرآن الكريم وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين كما يشمل كل المعارف المكتبة ويشمل ميراث البشرية من هذه المصادر جميعها عبر التاريخ . ولكن ساد بين الناس قصر لفظة (العلم) على العلوم البحتة والتطبيقية القائمة على الملاحظة والاستنتاج ، أو على التجربة والملاحظة والاستنتاج المطبقة على الكون ومكوناته وظواهره المتعلقة بمختلف صور المادة والطاقة والجمادات والأحياء فيه .
و(العلم) بهذا التحديد بدأ مع الإنسان منذ اللحظة الأولى لوجوده على هذه الأرض ثم تزايد بالتدريج في عمليات من المد والجزر ، ولكنه نما في الحضارة الإسلامية نموا متوازنا جمع الدنيا والآخرة في معادلة واحدة ، كما جمع بين وحي السماء والعلوم المكتسبة في تكامل وانسجام . ثم انتقل هذا العلم الإسلامي بمنهجه التجريبي إلى الغرب عبر دولة الإسلام في الأندلس ، وعبر الاحتكاك مع المسلمين في كل من صقلية وجنوب إيطاليا وشمال أفريقيا وبلاد الشام خاصة خلال الحروب الصليبية . ولكن المنهج العلمي الإسلامي عندما انتقل إلى الغرب كانت الكنيسة مهيمنة على الحياة فيه هيمنة كاملة ، فرضت خلالها سفر التكوين على المعارف الإنسانية ، وعندما اصطدمت نتائج المنهج التجريبي مع تفسيرات الكنيسة بدأ الصراع بين العلماء والكنيسة وحسم لصالح العلوم المكتسبة ، فبدأت تلك العلوم من منطلقات مادية بحتة منكرة كل ما هو غير مدرك أو محسوس بما في ذلك الدين . فانطلقت كل المعارف المكتسبة في الغرب من منطلقات معادية للدين ، منكرة للغيب ، دائرة في حدود المادة وحدها ، ومنكرة لكل ما هو فوق ذلك . ولكن المعطيات الكلية للعلوم المكتسبة بدأت في العقود المتأخرة من القرن العشرين في تأييد كل ما جاءت به الهداية الربانية التي تكاملت في بعثة النبي والرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم .
الدين والتطورات العلمية المعاصرة :
بلغت المعارف بالكون المادي في هذه الأيام مستوى لم تبلغه البشرية من قبل ، وأصبحت الاستنتاجات الكلية لتلك المعارف تؤكد كل ما جاء به الدين من إيمان بالله الخالق البارئ المصور ، وتنزيهه عن الشريك والشبيه والمنازع والصاحبة والولد ، وعن جميع صفات خلقه ، وعن كل وصف لا يليق بجلاله ، ومن ضرورة الإيمان بالغيب ، وبالوحي ، وبالبعث والحساب .
ويمكن إيجاز المعطيات الكلية للعلوم فيما يلي :
1 – إن هذا الكون الذي نحيا فيه كون محدود ، ولكنه كون متناه في أبعاده ، مذهل في دقة بنائه وانتظام حركاته ، وإحكام ترابطه ، مما يشهد لخالقه بالألوهية والربوبية ، وبطلاقة القدرة وبديع الصنعة وإحكام الخلق .
2 – إن هذا الكون مبني على زوجية واضحة من اللبنات الأولية للمادة إلى الإنسان ، وعلى نفس النظام من أدق دقائقه إلى أكبر وحداته مما يشهد لخالقه بالوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه .
3 – إن هذا الكون دائم الاتساع إلى نهاية لا تستطيع العلوم المكتسبة إدراكها وإن أمكنها قياس معدلات هذا التوسع .
4 – إن هذا الكون على قدمه مستحدث مخلوق ، كانت له بداية في الماضي السحيق تقدر بحوالي 14بليون سنة مضت ، وكل مستحدث عارض ، لابد وأن تكون له في يوم من الأيام نهاية تؤكدها كل الظواهر الكونية من حولنا ، وإن عجز الإنسان عن تحديد وقتها .
5 – إن هذا الكون المادي لا يمكن أن يكون قد أوجد نفسه بنفسه ، ولا يمكن لأي من مكوناته المادية أن تكون قد أوجدته ، كذلك لا يمكن أن يكون قد وجد بمحض الصدفة ، لأن العشوائية أو الصدفة لا يمكن لها أن تنتج كونا بهذا الاتساع ودقة البناء والانتظام في الحركة .
6 – إن الخلية الحية التي لا يكاد قطرها يزيد على 0.03 من المليمتر تبلغ من تعقيد البناء وكفاءة الأداء ما لم يبلغه أكبر المصانع التي أنشأها الإنسان ، بل التي فكر في إنشاءها ولم يتمكن من ذلك بعد ، فقد أعطاها الله تعالى القدرة على إنتاج مائتي ألف نوع من البروتين تعجز أكبر المصانع التي أنشأها الإنسان عن إنتاجها ومن ثم فلا يمكن لها أن تكون قد وجدت بمحض المصادفة .
7 – إن الشيفرة الوراثية التي تشغل حيزا أقل من (1) من المليون من المليمتر المكعب في نواة الخلية الحية يصل طولها إذا فردت إلى قرابة المترين ، وتحتوي على 18.6 بليون جزيئا كيميائيا تترتب ترتيبا محكما لو اختل وضع ذرة واحدة منه إما أن يشوه هذا المخلوق أو لا يكون . وإذا عرفنا أن جسد الفرد الواحد منا يتكون من تريليونات الخلايا وأن بنواة كل خلية متران من جزيئات الشيفرة الوراثية اتضح أن بجسد كل منا تريليونات الكيلومترات من هذه الجزئيات مضروبة في 18.6 بليون قاعدة كيميائية ، وهو رقم يزيد في طوله عشرات المرات عن المسافة بين الأرض والشمس والمقدرة بحوالي 150 مليون كيلومتر عشرات المرات ، ولا يمكن لعاقل أن يتخيل جمع هذه الريليونات من الجزيئات الكيميائية الفائقة التعقيد والدقة بمحض الصدفة .
8 – إذا علمنا أن الخلية الحية بهذا التعقيد في البناء ، والكفاءة في الأداء فإنه يستحيل تخيل إيجادها بمحض الصدفة ، وبالتالي إيجاد قرابة الخمسة ملايين نوع من أنواع الحياة الموجودة والبائدة بمحض الصدفة ، وأن يمثل كل نوع منها ببلايين الأفراد بمحض الصدفة كذلك .
9 – إن لبنات بناء أجساد الكائنات الحية وهي الجزيئات البروتينية على قدر من الانتظام في الترابط والأداء والتعقيد في البناء ينفيان أي احتمال للعشوائية أو الصدفة ، وكذلك لبنات بناء الجزيئات البروتينية وهي الأحماض الأمينية التي لا يمكن لعاقل أن يتخيل تكونها أو ترابطها مع بعض البعض بروابط محددة بمحض الصدفة .
هذه المعطيات – هي قليل من كثير – تفضي على الحقائق المنطقية التالية :
(1) إذا كان الكون الحادث لا يمكن له أن يوجد نفسه بنفسه ، أو أن يكون قد وجد بمحض الصدفة ، فلابد له من موجد عظيم له من العلم والقدرة والحكمة ما يفوق جميع قدرات خلقه ، ولابد لهذا الخالق العظيم من الصفات ما يغاير صفات المخلوقين جميعا ، فلا يحده أي من المكان أو الزمان ولا يشكله قوالب المادة والطاقة ، لأنه خالق ذلك وموجده ، والمخلوق لا يحد خالقه أبدا . ولذلك وصف ربنا تبارك وتعالى ذاته العلية بقوله العزيز : " لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ "(الأنعام:103) . وبقوله سبحانه : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ "(الشورى: من الآية11) .
(2) هذا الخالق العظيم الذي أوجد الكون بكل ما فيه ومن فيه هو وحده الذي يملك القدرة على إفنائه ثم إعادة خلقه وقتما شاء وكيفما شاء وفي ذلك يقول وقوله الحق : " يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ "(الأنبياء:104) . ويقول سبحانه وتعالى : " يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ "(إبراهيم:48) . ويقول جل شأنه : " إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " (يّـس:82) .
(3) إن الكون مبني في زوجية كاملة من اللبنات الأولية للمادة إلى الإنسان تشير إلى وحدانية الخالق العظيم وإلى تفرده بهذه الوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه . وتتضح وحدة البناء الكوني في بناء مكوناته من الذرة إلى المجرة إلى بناء الكون كله ، ومن الخلية الحية المفردة إلى الإنسان . كما تتضح في تأصل العناصر وردها كلها إلى أصل واحد هو غاز الأيدروجين ، أبسط العناصر بناء وأقلها مكونات وفي تواصل كل من مختلف صور الطاقة ، وزنا وتواصل كل من المادة ، والطاقة والمكان والزمان ، وهو تواصل في تزاوج يشير إلى وحدانية الخالق سبحانه وتعالى ، وإلى تفرده بتلك الوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه واستعلائه بمقام الألوهية الذي لا يشاركه فيه أحد ولا ينازعه منازع ولا يشبه من خلقه شيء .
(4) إن العلوم الكونية المكتسبة – في تعاملها مع المدرك المحسوس – توصلت إلى حقيقة الغيب ، وإلى أن بالكون غيوب كثيرة لا يستطيع الإنسان الوصول إليها بجهده وحواسه وقدرات عقله ، ولولا الجري وراء المجهول ما استمرت تلك العلوم في التطور والنماء ، ومن الغيوب ما هو مرحلي قد يصل الإنسان إليه ، ومنها ما هو مطلق لا سبيل للإنسان إليه إلا عن طريق وهي السماء ومن الغيوب المطلقة المحجوبة عنا حجبا كاملا : الذات الإلهية ، الروح ، الملائكة والأنبياء والرسل السابقون ورسالاتهم ممن لم يذكرهم القرآن الكريم ، حياة البرزخ الآخرة ، البعث ، الحشر ، الميزان ، الصراط ، الجنة ، النار ، وغيرها كثير كثير .
(5) تؤكد العلوم التجريبية أن بالأحياء سرا لا نعرف سره لأننا نعرف مكونات الخلية الحية كاملة ، ومع ذلك لم يستطع العلماء بناء خلية حية واحدة وأقصى ما أنتجته العلوم المكتسبة هو صناعة المورث (الجين) وهو مركب كيميائي لا ينشط إلا في داخل الخلية الحية مما يؤكد أن الحياة من الأسرار التي يعرف الإنسان ظواهرها ولا يعرف كنهها .
(6) إن إمعان النظر في الكون يؤكد حاجته بكل ما فيه ومن فيه إلى رعاية خالقه العظيم في كل لحظة من لحظات وجوده ولولا هذه الرعاية الإلهية ما كان الكون ولا كان ، ولا من فيه ما فيه .
(7) إن العلوم المكتسبة إذ تقرر أن الكون والإنسان في شكليهما الحاليين ليسا أبديين فإنها – وعلى غير قصد منها – تؤكد حقيقة الآخرة ، بل حتميتها ، والموت يتراءى في مختلف جنبات الكون حاصدا الإنسان والحيوان والنبات والجماد وأجرام السماء على تباين هيئاتها في كل وقت .
هذه بعض المعطيات الكلية للعلوم المكتسبة وهي في جملتها تتطابق مع تعاليم السماء كما تكاملت في بعثة النبي والرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم وفي ذلك كتب المفكر الإسلامي الكبير الأستاذ/ محمد فريد وجدي رحمه الله في خاتمة كتابه المعنون " المستقبل للإسلام " ما نصه :
" إن كل خطوة يخطوها البشر في سبيل الرقي العلمي هي تقرب إلى ديننا الفطري حتى ينتهي الأمر إلى الإقرار الإجماعي بأنه الدين الحق " .
ثم يضيف : " نعم إن العالم يفضل تجرده من الموروثات والتقاليد وإمعانه في النقد والتمحيص يتماشى على غير قصد منه نحو الإسلام ، بخطوات متزنة ثابتة ، لا توجد قوة في الأرض ترده عنه إلا إذا انحل عصام المدينة وارتكست الجماعات الإنسانية عن وجهتها العلمية " . وقد بدأت بوادر هذه التحول الفكري تظهر جلية اليوم في مختلف بلاد العالم بإقبال أعداد كبيرة من مختلف التخصصات على الإسلام من أمثال الطبيب الفرنسي موريس بوكاي – الذي يسجل في كتابه المعنون " الإنجيل والقرآن والعلم " ترجمته : " لقد أثارت هذه الجوانب العلمية التي يختص بها القرآن دهشتي العميقة في البداية ولم أكن أعتقد قط بإمكاني اكتشاف عدد كبير إلى هذا الحد من الدعاوى الخاصة بموضوعات شديد التنوع ومطابقة تماما للمعارف العلمية الحديثة ، وذلك في نص ورد منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا " وعلى ذلك فإن التأصيل الإسلامي للمعرفة من جهة وفهم الإشارات الكونية في كتاب الله وفي أقوال خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم من جمعه أخرى وذلك بتوظيف الحقائق العلمية المتاحة من جهة أخرى سوف يؤكد لكل ذي بصيرة استمرار النبوة من لدن أبينا آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم عبر سلسلة طويلة من أنبياء الله ورسله عليهم أجمعين من الله السلام . وأن القرآن الكريم بما يحويه من حقائق علمية لم تدركها العلوم المكتسبة إلا بعد أكثر من ألف وثلاثمائة سنة هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه على خاتم أنبيائه ورسله ، وحفظه بعهده الذي قطعه على ذاته العلية على مدى الأربعة عشر قرنا الماضية في نفس لغة وحيه (اللغة العربية) وتعهد بذلك الحفظ إلى ما شاء الله تعالى ، ليبقى القرآن الكريم شاهدا على جميع الخلق بأنه كلام الخالق ، وشاهدا للنبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة ، وبأنه كان موصولا بالوحي ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
قائمة ببعض البرامج المختارة
1 – بوكاي ، موريس : " القرآن ، والعهدين القديم والجديد والعلم " دار المعارف – القاهرة – 1398هـ/1978م .
2– Bucaillle , Maurice (1976) : “ La Bible , Le Curan et la Science Editions Seghers , 6 Place Saint-Sulpice 75006 , Paris .
3 – بوكاي موريس : " ما أصل الإنسان ؟ " إجابات العلم والكتب المقدسة – مكتب التربية العربي لدول الخليج – 1406هـ/1985م .
4 – Bucaillle , Maurice (1984) : “ what is the Origin of Man ? The answer of Science and the Holy Scriptures ” A.S. Noordeen , Kuala Lumpur , Malayisia .
5 – مونسما ، جون كلوفر (مشرف على التحرير : الله يتجلى في عصر العلم) ترجمة الدكتور/ الدمرداش عبد المجيد سرحان ، مراجعة الدكتور/ محمد جمال الدين الفندي – نشر مؤسسة الحلبي وشركاته للنشر والتوزيع – القاهرة – 1960م .
6 – Monsoma , John clover , edithor (1958) : “ The Evidence of God in an expanding universe , G.P. Patmans & Son , New York .
7 – النجار ، زغلول راغب محمد (1426هـ/2005م) : " من آيات الإعجاز العلمي : السماء في القرآن الكريم " – دار المعرفة – بيروت – لبنان (الطبعة الثالثة) .
8 – النجار ، زغلول راغب محمد (1426هـ/2005م) : " من آيات الإعجاز العلمي : الأرض في القرآن الكريم " – دار المعرفة – بيروت – لبنان (الطبعة الأولى)
9 – النجار ، زغلول راغب محمد (1427هـ/2006م) : " من آيات الإعجاز العلمي : الحيوان في القرآن الكريم " – دار المعرفة – بيروت – لبنان (الطبعة الأولى)
10 – النجار ، زغلول راغب محمد (1426هـ/2006م) : " من آيات الإعجاز العلمي : النبات في القرآن الكريم " – مكتبة الشروق الدولية – القاهرة – مصر (الطبعة الثالثة) .
11 – النجار ، زغلول راغب محمد (1426هـ/2006م) : " قضية الإعجاز العلمي للقرآن وضوابط التعامل معها " – شركة نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة .
12 – النجار ، زغلول راغب محمد (1426هـ/2006م) : " الإعجاز العلمي في السنة النبوية " الأجزاء 1 ، 2 ، 3 (الطبعة الثامنة) – شركة نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة .
13 – وجدي ، محمد فريد (1951م) : " المستقبل للإسلام " – مطبعة دار السعادة – القاهرة