بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2011-05-31
بسم الله الرحمن الرحيم
من أسرار القرآن:
383 ب- (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ُ.... * )
( الإسراء : 1 ).
بقلم
الأستاذ الدكتور/ زغلول راغب النجار
من الدروس المستفادة من رحلة الإسراء والمعراج ما يلي :
أولا: الإيمان بطلاقة القدرة الإلهية التي لا تحدها حدود والتي أسرت برسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكة المكرمة إلى بيت المقدس, ثم عرجت به إلى سدرة المنتهى عبر السموات السبع, ثم أعادته إلى بيت المقدس ليصلي إماما بجميع أنبياء الله تأكيدا لمقامه -صلى الله عليه وسلم- ثم رجعت به إلى بيته في مكة المكرمة ليجد فراشه لا يزال دافئا. فقد أوقف الله- تعالى- له الزمن , وطوى المكان , ولا يقدر على ذلك إلا رب العالمين. وهنا يجدر التأكيد على أن كلا من الزمان والمكان هو من خلق الله, وأن الله- تعالى- قادر على إيقاف الزمن, وعلى طي المكان لمن يشاء من عباده.
ولكي ندرك ضخامة هذه المسافات أذكر: أن أبعد نجم أدركه الفلكيون في السماء الدنيا يبعد عنا مسافة تقدر بحوالي 36 بليون سنة ضوئية, والسنة الضوئية تقدر بنحو (9,5 مليون مليون كم). بمعنى أنه لو فرضنا جدلا أن الإنسان تمكن من صنع مركبة فضائية تتحرك بسرعة الضوء (وهذا مستحيل) فإنه سوف يحتاج إلى 36 بليون سنة ليصل إلى آخر ما نرى من نجوم السماء الدنيا. فما بالنا بست سموات فوق ذلك إلى سدرة المنتهى, حيث شرف المصطفى- صلى الله عليه وسلم- بالمثول بين يدي ربه, وتلقى منه الأمر بخمس صلوات في اليوم والليلة.
ثانيا: الإيمان بأن الله –تعالى- الذي خلق كلا من المادة والطاقة, والمكان والزمان, هو فوق ذلك كله, ومنزه عن جميع صفات خلقه, وعن كل وصف لا يليق بجلاله, فلا تحده حدود أي من المكان أو الزمان, ولا حدود أي من المادة أو الطاقة, وهو- تعالى- قادر على إفناء خلقه وعلى إعادة بعثه.
ثالثا: التأكيد على مقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند رب العالمين , فهو أحب خلق الله إلى الله- تعالى-, ولذلك أوصله إلى مقام من السماء لم يصل إليه غيره من البشر, ووضعه على رأس سلسلة الأنبياء والمرسلين, وهو خاتمهم أجمعين, ولذلك صلى بهم إماما في القدس الشريف تأكيدا على مقامه عند رب العالمين, وعلى نسخ شريعته الخاتمة لجميع شرائعهم. وفي ذلك إشارة إلى من يدعون إتباع نبي من الأنبياء السابقين إلى ضرورة الإيمان بهذا النبي الخاتم, وبالقرآن الكريم الذي أوحى إليه واتباع الدين الذي جاء به, كما تبعه جميع أنبياء الله ورسله في الصلاة بالمسجد الأقصى, إعلانا بعموم رسالته التي اكتمل بها الدين, وتمت بها النعمة التي أصبحت واجبة على الخلق أجمعين.
رابعا: الإشارة إلى ضرورة الإيمان بوحدة رسالة السماء, وبالأخوة بين الأنبياء, وبين الناس جميعا, وهي قيم إسلامية أكدتها إمامة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لجميع أنبياء الله ورسله في الصلاة بهم بالمسجد الأقصى وعالم اليوم المضطرب بالعديد من الفتن والمظالم, والغارق في بحار من الدماء والأشلاء, والذي يعاني من الإفساد والخراب والدمار في كل مجال, ما أحوجه إلى استعادة هذه القيم الربانية السامية من جديد!!
خامسا: التأكيد على حرمة كل من مكة المكرمة وبيت المقدس. فعن أبي ذر- رضي الله عنه- أنه قال: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال "المسجد الحرام" قلت ثم أي, قال: "المسجد الأقصى" قلت: كم كان بينهما ؟ قال: أربعون سنة " ( رواه كل من البخاري ومسلم وأحمد).
وكل من الكعبة المشرفة والمسجد الأقصى قد تم بناؤه قبل خلق الإنسان ببلايين السنين ومن هنا كانا مكانين لمن يعبد الله- تعالى- وحده (بغير شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة ولا ولد). ولا يمكن نسبة أي منهما إلى دين غير دين الإسلام وهو الدين الوحيد الذي يؤمن أتباعه بجميع أنبياء الله ورسله دون أدنى تفريق, ولذلك لا يرتضي ربنا- تبارك وتعالى- من عباده دينا سواه. فقد أنزل الله أبوينا آدم وحواء في مكة المكرمة ثم جاء من نسلهما عدد من الأنبياء الذين أسكنهم الله- تعالى- في أرض فلسطين, وأمر إبراهيم- عليه السلام- أن يضع زوجه هاجر ورضيعها إسماعيل في مكان البيت حتى يأتي من نسله خاتم الأنبياء والمرسلين- صلى الله عليه وسلم- ليلتقي أول النبوة بخاتمها, ثم يسري بخاتم أنبيائه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى تأكيدا على حرمة هذين المكانين.
سادسا: التأكيد على فضل الصلاة التي فرضت من الله- تعالى- مباشرة إلى خاتم أنبيائه ورسله- صلى الله عليه وسلم- وهي على ذلك تعتبر معراج المسلم إذا أدى حقها بالخشوع والاطمئنان المطلوبين, حتى يستشعر لذة مناجاة الله في الصلاة, كما أصبح السعي إليها في صلاة العشاء والفجر يمثل مسرى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-, ومن هنا كانت آخر ما أوصى به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته.
سابعا: الإيمان بوقوع معجزة "الإسراء والمعراج" بالجسد والروح معا, وفي حالة من اليقظة الكاملة والتأكيد على صدق جميع المرائي التي رآها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طيلة هذه المعجزة؛ وكان منها بعث للأنبياء والمرسلين السابقين ولقائهم به, وحديثهم معه, والله على كل شئ قدير.
وكان من هذه المرائي: المكرمون من أهل الجنة في الجنة والمجاهدون (يزرعون في يوم ويحصدون في يوم), وبلال مؤذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وماشطة بنت فرعون وأولادها (يعبقون بريح المسك).
وكان منها النار وخزنتها والمعذبون فيها, ومنهم: الدجال والمتثاقلون عن الصلاة (ترضخ رءوسهم بالحجارة), ومانعوا الزكاة (يأكلون الزقوم وعلى أدبارهم وإقبالهم رقاع تفضحهم), والزناة: (يتركون اللحم النضج الطيب, ويأكلون اللحم النيئ, النتن, والنساء الزانيات معلقات بصدورهن), وقاطعو الطريق, ومضيعو الأمانة, وخطباء الفتنة ( تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقارض من حديد , وكلما قرضت عادت), وأصحاب الكلام الفاحش (على هيئة الثور الذي يخرج من جحر فلا يستطيع العودة فيه), وأكلة أموال اليتامى (يلقمون الجمر في أفواههم فيخرج من دبرهم), والمغتابون (لهم أظفار من نحاس يخدشون بها صدورهم ووجوههم ويقطع من جنوبهم اللحم فيلقمونه), والذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا, وعاقر ناقة صالح, والكذابون: (بيد كل واحد منهم كلوب من حديد يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه, ثم يخرجه, ويفعل بشدقه الآخر مثل ذلك, وكلما التأم شدقه عاد فيكرر فعله ), ومنهم أكلة الربا (والحيات في بطونهم).
وقد يسأل سائل كيف كان ذلك والساعة لم تقم بعد؟ والموتى لم يبعثوا بعد ؟ وهنا يأتي التأكيد بأن الحاضر والماضي والمستقبل كله عند الله حاضر, والله- تعالى- قادر على أن يطلع من يصطفي من عباده عليه, وأن كلا من حدود الزمان والمكان من خلق الله, يحد بهما المخلوقين, والله- سبحانه وتعالى- قادر على طيهما أو إلغائهما تماما , والتسليم بضخامة الكون وبتعاظم أبعاده.
ثامنا: الإيمان بالغيوب المطلقة التي أخبر عنها القرآن الكريم, ومنها الإيمان بالله, وملائكته, وكتبه ورسله, وبحتمية الآخرة, وما فيها من الحساب والجزاء, والجنة والنار, والميزان والصراط.
تاسعا: التأكيد على أن الابتلاءات هي من سنن أصحاب الدعوات في كل زمان ومكان, وأنها من وسائل التطهير والتزكية للنفس الإنسانية, وعلى ذلك فإنه يجب على المسلم ضرورة الالتجاء إلى الله- تعالى- في كل شدة, واليقين بأنه إذا انقطعت حبال الناس فإن حبل الله المتين لا ينقطع أبدا ما دام العبد متوكلا على الله حق التوكل, وأنه ليس بعدالعسر إلا اليسر. ونحن نرى ذلك في التكريم العظيم الذي لقيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في رحلة الإسراء والمعراج, والتي أكرمه الله- نعالى- بها بعد عام الحزن الذي كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد فقد فيه كلا من زوجه أم المؤمنين السيدة خديجة- عليها رضوان الله- وعمه أبو طالب, فاشتدت وطأة كفار ومشركي قريش عليه حتى أخرجوه من مكة, فلجأ إلى أهل الطائف طالبا التأييد منهم حتى يبلغ دعوة الله, فردوه ردا غير جميل أغروا به جهالهم الذين أدموا قدميه الشريفين, فوقف في الطريق بين الطائف ومكة يناجي ربه بمناجاة تهز القلب والعقل معا. ثم دخل مكة بجوار (أي في حماية) أحد كبار مشركيها. وبعد كل هذه المعاناة جاءت معجزة الإسراء والمعراج تكريما وتشريفا خاصين له- صلى الله عليه وسلم- من دون الخلائق, ليطلعه ربه- تبارك وتعالى- على عوالم من الغيب لم يرها غيره من البشر, بما في ذلك الأنبياء والمرسلون الدين بعثهم الله- تعالى- جميعا لمبايعته على إمامته لهم.
عاشرا : التحذير من مخاطر المفاسد السلوكية على الإنسان, أفرادا ومجتمعات, وعلى شدة العقوبة عليها في الدنيا قبل الآخرة تحريما لها, ومنعا للوقوع فيها. فقد شاهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من المرائي في رحلة المعراج ما يفزع كل عاقل من الوقوع في أي منها, فقد رأى عقوبات عدد من الجرائم مثل الزنا, ومنع الزكاة, والوقوع في الغيبة والنميمة, وأكل أموال اليتامى ظلما, وأكل الربا, وأكل أموال الناس بالباطل, كما رأى عقاب خطباء الفتنة, وجزاء تضييع الأمانة, وغير ذلك من الجرائم التي قد يقع فيها كثير من الناس. ولو أدركوا هول العقاب على كل جريمة من هذه الجرائم ما وقعوا فيها أبدا.
كذلك رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أثناء عروجه في السموات العلى بعض ثواب المجاهدين في سبيل الله الذين تضاعف لهم حسناتهم إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة... والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.
حادي عشر: التسليم بأن المعجزات هي خوارق للسنن , وبالتالي فإن العقل البشري لا يستطيع تفسيرها , وعلى كل من المسلم والمسلمة الإيمان بما جاء عن تلك المعجزات في كل من كتاب الله وسنة رسوله دون محاولة تفسيرها بإمكانات العقل البشري المحدودة .
هذه بعض الدروس المستفادة من رحلة الإسراء والمعراج, وهي بالإضافة إلى كونها معجزة كونية, فإنها تبقى أعظم حدث في تاريخ البشرية.