بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
الخلق اليوم: الرحمة.
معنى الرحمة:
أيها الأخوة, الرحمة كلمة جامعة لكل أنواع العطاء الإلهي، فحينما تكون معافى في بدنك فهذه رحمة، وحينما تكون ذا رزق موفور فهذه رحمة، وحينما تكون مرتاحاً في نفسك، متوازنًا هذه رحمة، رحمة الله عز وجل تشمل كل شيء، عطاؤه رحمة، وتأديبه رحمة، نعمه الظاهرة رحمة، ونعمه الباطنة كالمصائب رحمة، هناك رحمة عاجلة، وهناك رحمة آجلة، هناك رحمة مادية، وهناك رحمة معنوية، وهناك رحمة روحية، هناك رحمة تشمل الدنيا والآخرة، يمكن أن نقول: إن مطلق عطاء الله عز وجل بشتى أشكاله، وألوانه، وأنواعه، وصفاته، مقدمه ومؤخره تعد من الرحمة، ووسعت رحمتي كل شيء.
الرحمة -أيها الأخوة- لا تخلو عن أن تكون رقةً مؤلمةً تعتري الرحيم، رقة مؤلمة تعتري الرحيم فتحركه إلى قضاء حاجة المرحوم، والله سبحانه وتعالى هو أرحم الراحمين، قال تعالى:
﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾
[سورة مريم الآية: 45]
فكل ما يبدو لك من مصائب هو في حقيقتها رحمة.
((إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي))
وما قدروا الله حق قدره:
أيها الأخوة, يقول بعض العلماء: من رحمته سبحانه وتعالى: ابتلاء الخلق بالأوامر والنواهي رحمةً لهم، وحميةً لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به، ومن رحمته أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا إليها، ويرغبوا عن النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إليها بسياط الابتلاء والامتحان, فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم، ومن رحمته بهم أن حذرهم نفسه لئلا يغتروا به، ومن رحمته أن أنزل لهم كتباً، وأرسل لهم الرسل، لكن الناس افترقوا إلى فريقين؛ فأما المؤمنون فقد اتصل الهدى في حقهم بالرحمة فصار القرآن لهم هدى ورحمة، وأما الكافرون فلم يتصل الهدى بالرحمة فصار لهم القرآن هدى بلا رحمة.
النبي رحمة للخلق:
أيها الأخوة, في القرآن الكريم تقريباً مئتا آية تتحدث عن الرحمة، وفي الأحاديث عدد غفير جداً من الأحاديث التي تشير إلى الرحمة، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- دعا لميت فقال:
((اللهم اغفر له وارحمه))
[أخرجه مسلم في الصحيح, والترمذي والنسائي في سننهما]
عن مَالِكٌ قال:
((أَتَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ, فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً, وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَحِيمًا رَفِيقًا, فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا, أَوْ قَدِ اشْتَقْنَا, سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ -يعني كان عليه الصلاة والسلام رحيماً بأصحابه وكان واقعياً- قَالَ: ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ, فَأَقِيمُوا فِيهِمْ, وَعَلِّمُوهُمْ, وَمُرُوهُمْ, وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أَوْ لا أَحْفَظُهَا, وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي, فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ, فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ, وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ))
ويقول عليه الصلاة والسلام عن نفسه:
((أنا نبي الرحمة))
كل دعوته رحمة للخلق، وكل مواقفه وسلوكه رحمة.
ذكر رحمة الله تعالى:
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
((لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ, كَتَبَ فِي كِتَابِهِ, وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ, وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي))
وعن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال:
((قال عليه الصلاة والسلام: إن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مئة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فيها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة))
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ:
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ, مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ, تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى))
[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح]
المؤمنون يتراحمون، وقد وصف الله جل جلاله النبي الكريم وأصحابه فقال:
﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾
[سورة الفتح الآية: 29]
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت:
((جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله, تقبلون الصبيان!؟ فلا نقبلهم! فقال عليه الصلاة والسلام: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟))
وفي بعض الأحاديث: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:
((جعل الله الرحمة مئة جزء، فأمسك عنده تسعةً وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق, حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه))
[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح]
مؤشرا الرحمة والإيمان:
أيها الأخوة, أرحم الخلق بالخلق محمد -صلى الله عليه وسلم-، لأن مؤشر الرحمة يتحرك مع مؤشر الإيمان والاتصال بالله، فأنت ترحم بقدر اتصالك بالله، إذاً وفق هذه القاعدة: أرحم الخلق بالخلق النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومع ذلك قال الله له:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾
[سورة آل عمران الآية: 159]
هذا التنكير تنكير التصغير، ويقول عن ذاته العلية:
﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾
[سورة الأنعام الآية: 133]
هذا التعريف تعريف شمول، بما رحمة من الله لنت لهم، وربك الغفور ذو الرحمة.
الحث على رحمة الله تعالى:
ويقول عليه الصلاة والسلام:
((رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى))
((ورحم الله امرأةً قامت من الليل فصلت، ثم أيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء))
ويقول عليه الصلاة والسلام:
((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))
[أخرجه الترمذي في سننه]
من علامات قيام الساعة:
من علامات قيام الساعة: أن ينزع الحياء من وجوه النساء، وأن تذهب النخوة من رؤوس الرجال، وأن تنزع الرحمة من قلوب الأمراء.
ليس هناك امرأة فيها حياء، ولا رجل عنده نخوة، ولا أمير في قلبه رحمة، وهذا من علامات قيام الساعة.
ويقول عليه الصلاة والسلام:
((لا تنزع الرحمة إلا من شقي))
[أخرجه الترمذي في سننه]
أشقى الخلق أقساهم قلوباً، وأقرب الخلق إلى الله أكثرهم رحمةً.
ويقول عليه الصلاة والسلام:
((لا يرحم الله من لا يرحم الناس))
[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح, والترمذي في سننه]
قد تكون في منصب، وبيدك التسعيرة، تقول: عندنا مائة وحدة سكنية نريد الثمن نقداً، يأتيك الأغنياء يدفعون، أما هؤلاء الفقراء فلا يملكون هذا الثمن، فالذي يرحم الناس يرحمه الله، بإمكانك أن تفرض ضرائب عالية جداً، تمتص معظم دخل الإنسان، أنت لا ترحمهم، لذلك الله جل جلاله لا يرحمك.
((لا يرحم الله من لا يرحم الناس))
[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح, والترمذي في سننه]
وهناك أعرابي انزعج من بعض أصحاب النبي حينما بال في المسجد، فقاموا إليه، قال: دعوه، فلما رأى النبي طمأنه، ومنعهم أن يصلوا إليه، قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً -يقصد هؤلاء-, فقال عليه الصلاة والسلام: يا أخي لقد حجرت واسعاً.
دققوا في هذا الحديث:
((لن تؤمنوا حتى ترحموا.
-إن لم تكن رحيماً فلست مؤمناً-.
لن تؤمنوا حتى ترحموا، فقالوا: كلنا رحيم يا رسول الله، قال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ...))
طبعاً: كل منا يرحم أولاده وزوجته وأقرباءه، هذه رحمة خاصة، هذه أودعت في قلبك من دون اختيار لك، هذه رحمة ليست كسبيةً، إنما هي فطرية، هذه أكاد أقول: لا تؤجر عليها، لأنها مركبة في أصل طبعك.
الرحمة العامة والرحمة الخاصة:
مرةً دخلت إلى مستشفى الأطفال, لفت نظري أن البدوية تبكي، وأن السافرة تبكي، وأن المثقفة تبكي، وأن المحجبة تبكي، وأن الغنية تبكي، أودع الله في قلب الأمهات هذه الرحمة، ولكن ما الرحمة التي تؤجر عليها، وترتقي بها؟ أن ترحم الناس، أن ترحم ابنك، هذا شيء مركب في أصل طبعك، لكن أن ترحم موظفاً عندك في المحل, هذه الرحمة التي تؤجر عليها الرحمة العامة، أما الخاصة أكاد أقول: لا أجر لك بها، لأنها ليست من كسبك، أودعها الله في قلبك كي تسير الأمور على ما ينبغي، لولا أن الآباء والأمهات يرحمون أولادهم, لما نما طفل إطلاقاً.
لذلك ورد في بعض الآثار: أن نبياً رأى أماً تقبل ابنها, وهي تخبز على التنور, وكلما وضعت رغيفاً في التنور, ضمت ابنها, وشمته, وقبلته, فعجب هذا النبي الكريم من رحمة هذه الأم بابنها! فقال الله له: إنها رحمة أودعتها في قلب أمها, وسأنزعها, فلما نزع من قلبها الرحمة بوليدها وبكى, ألقته في التنور.
لذلك: الرحمة فيما بين الأم والأولاد رحمة رائعة جداً تمثل رحمة الله، ولكن لا يكاد الأجر يرتقي بها إلى الأجر الذي يعطيه الله لمن يرحم الخلق عامة، لمن يرحم مخلوقاً لا ينتمي إليه، يعني رحمة الله بآبائهم في العالم كله في كل البلاد والعباد، لكن أن ترحم الناس، أن ترحم الغرباء، أن ترحم من لا يمت لك بصلة، هذه رحمة لها درجات عليا في ميزان العبد عند الله.
من أشد أنواع التهديد عبارة: ليس منا، يعني أخرجه من ملة الإسلام، ليس منا.
يقول عليه الصلاة والسلام:
((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ومن لم يوقر كبيرنا، ومن لم يعرف لعالمنا حقه))
فالوقح, والمتطاول، والفظ، والغليظ، والقاسي على الصغير, هذا ليس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
الرحمة مطلقة وليست مقيدة:
يقول عليه الصلاة والسلام:
((ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله))
[أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط, والإمام أحمد في مسنده]
قال العلماء: هذه أرجى آية في القرآن الكريم، الرحمة ينبغي أن لا تشمل البشر وحدهم، ينبغي أن تشمل الخلق جميعاً، فحينما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- إنساناً يذبح شاةً أمام أختها غضب، وقال: هلا حجبتها عن أختها؟ أتريد أن تميتها ميتتين؟.
وقال عليه الصلاة والسلام:
((إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته))
الآن حديث غريب جداً: امرأة بغي، والزنا جريمة لمرة واحدة، فإذا امتهنت المرأة الزنا, كانت بغياً لمرة واحدة جريمة، فإذا كان الزنا حرفتها هذه البغي، هذه البغي يقول عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-:
((بينما كلب يطوف بركية حول بئر, يكاد العطش يقتله, إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل, فنزعت موقها -أي خفها-, فسقته بموقها, فغفر الله لها))
الحقيقة: العلماء وقعوا في حيرة في هذا الحديث: امرأة بغي تمتهن الزنا، وهي من أسقط الخلق عند الله، لأنها رحمت كلباً، لم ترحم إنساناً، لكن كلبًا غفر لها، لأن هذا العمل لا يمكن أن يكون رياءً، ما من إنسان يراقب عملها، ما من إنسان ترجو عنده العطاء, ما من إنسان تخافه، إلا أنها رحمت هذا الكلب.
لذلك أنا أقول أيها الأخوة: حينما تخدم الخلق, حينما ترحم الخلق, لعل الله يرحمك بهذا العمل، حتى إن النبي -عليه الصلاة والسلام- دخل بستان أنصاري فرأى جملاً، فلما رأى الجمل النبي حن, فذرفت عيناه, تقدم منه النبي -عليه الصلاة والسلام-، فمسح ذفريه، وقال: من صاحب هذا الجمل؟ جيء بفتى أنصاري، قال: أنا صاحبه، قال: ألا تتقي الله بهذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه.
الآن أكثر عبارة شائعة: الشفافية, هذه هي الشفافية: أن تشف نفسك عن رحمة بالخلق.
يقول عليه الصلاة والسلام: عن عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري, عن أبيه قال:
((قال رسول الله -صلى اللهم عليه وسلم-: إني لأقوم إلى الصلاة, وأنا أريد أن أطول فيها, فأسمع بكاء الصبي, فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه))
هذه رحمته بالأمهات.
يا رسول الله ادع على المشركين، فقال:
((إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة))
الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب:
بالمناسبة: الإنسان حينما يبكي لمصيبة ألمت به هذا ليس منهياً عنه.
((إن العين لتدمع, وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا عليك -يا إبراهيم- لمحزونون))
لذلك: إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه، أي يموت الإنسان, ويسمع صراخ من البيت، الجسر انهد، الله هو الرزاق، هناك كلمات تقال عند الموت كلها كفر، فما دام الإنسان يبكي، وقلبه يتألم فلا شيء عليه، هذا شيء طبيعي، لست مؤاخذاً أن تتألم لمصيبة، ولكن المؤاخذة أن تتكلم كلاماً فيه كفر، وفيه نقض لقضاء الله وقدره.
الشفاعة عند الله بين الخلق رحمتهم فيما بينهم:
من أقوال السلف الصالح: كان سيدنا عمر بن عبد العزيز يدعو ويقول: اللهم إن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك، فإن رحمتك أهل أن تبلغني.
الحقيقة: إذا كان من شيء يدل على الإيمان في قلب الإنسان هو الرحمة, فأنت ترحم بقدر إيمانك، وأنت تقسو بقدر عصيانك.
فمن لا يرحم لا يرحم.
وإن أردتم رحمتي، فارحموا خلقي.
وعلامة المؤمنين أنهم رحماء فيما بينهم.
أخواننا الكرام, أنا أتكلم كلاماً من معاناة، ترى الإنسان إذا وقع أخوه تحت يده, ذبحه من الوريد إلى الوريد، لا يرحم الذي يرحم يرحم.
إن الله لا يضيع أجر العاملين:
التقيت بشخص سألني عن عمره من باب المداعبة، أنا توقعته ستين سنة، قال: عمري ستة وسبعون، أقسم بالله! أنه يتمتع بحيوية ونشاط وبشعور بالقوة, شيء لا يصدق, سألته عن عمله، قال: أنا من أربعين سنة بالجمرك, أقسم بالله -وهو عندي صادق- أنه لم يؤذ إنساناً في هذه السنوات الأربعين، حتى قال لي: يعني لم أدقق إلا في تهريب المخدرات والأسلحة, أما في قضية بحاجة ماسة لها علف -فرضاً-, أشياء, مواد غذائية لا يدقق فيها، عاش -حسب ما أعلم- تسعين سنة, يتمتع بصحة وبمكانة وبحبوحة، أقسم بالله العظيم أنه لم يصل إلى جيبه قرش واحد من الحرام، -الله موجود يعني رحم عباد الله-، أصابته محنة, أطلق عليه الرصاص من قبل المهربين، فدخل إلى المستشفى ناجى ربه، وقال: يا رب إن كنت آذيت عبداً من عبادك فأمتني الآن، وإن كنت تعلم أنني لم أؤذ أحداً من عبادك فارحمني، ورحمه الله، ونجحت العملية.
أنت حينما ترحم الناس يرحمك الله، وحينما تقسو على الناس، الإنسان قد يكون بمنصب حساس في المالية في الجمرك, فحينما تقسو على الناس أمامك يوم أسود، لأن هؤلاء الناس عباد الله.
الله إذا أعطى أدهش وإذا أخذ أدهش:
مرة التقيت مع إنسان أيضاً, مكانه حساس جداً, بإمكانه أن يرحم الناس، أو أن يفرمهم بالتعبير الدارج، أو أن يقسو عليهم, قلت له: الله عنده سرطان، عنده فشل كلوي، عنده تشمع كبد، عنده حسرة بالدماغ، عنده شلل، عنده أزمات قلبية، عنده جلطات، وكل هؤلاء العباد عباد الله، فإذا كنت بطلاً, فهيئ لله جواباً عن كل شيء تفعله لا لرؤسائك لربك.
أنا أنصح أخوتنا، وأنصح نفسي معكم: قبل أن تتحرك، قبل أن تنطق بكلمة، قبل أن تمد يدك لإنسان, قبل أن توقع: هل عندك جواب لله عز وجل فيما تفعل؟ قبل أن تتحرك، قبل أن يصل أذاك إلى مخلوق, كائناً من كان, مسلمًا أو كافرًا، قريبًا أو بعيدًا، إنسانًا أو حيوانًا، قبل أن يصل أذاك على مخلوق, هل عندك جواب لله عز وجل؟ هيىء جواباً قبل أن تفعل، وإلا الحساب الشديد، قال تعالى:
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾
[سورة البروج الآية: 12]
الله عز وجل إذا بطش شيء مدهش، يسحقه حتى العظم، وهؤلاء كلهم عباد الله.
الظلم ظلمات يوم القيامة:
يقال: إن يحيى البرمكي كان أقرب المقربين إلى هارون الرشيد، يعني الرجل الثاني في الدولة، فجأةً رأى نفسه في السجن, زاره أحد أقربائه, قال له: لعل دعوة مظلوم أصابتنا.
الظلم ظلمات يوم القيامة؛ قبل أن تتحرك, قبل أن تنطق بكلمة، قبل أن تبتسم، قبل أن تعبس، قبل أن تخطط، قبل أن تفعل شيئاً، هل عندك جواب لله عز وجل؟ هذا عبد لله.
اتقوا دعوة المظلوم ولو كان كافراً، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب.
وقد قال العلماء: الله عز وجل ينتصر لدعاء المظلوم ولو كان كافراً، لا بأهليته للدعاء، ولكن بعدل الله عز وجل، وينقذ المضطر ولو كان كافراً، لا بأهليته للدعاء، ولكن برحمة الله عز وجل.
مَن لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ:
أيها الأخوة, نحن إذا تراحمنا رحمنا الله، أنا أرى قسوة في المعاملة, أرى قسوة بالغة.
أنت حينما ترحم تُرحم، وتأكد أنه بقدر اتصالك بالله ترحم، وبقدر بعدك عن الله تقسو، فإذا كان للرحمة مؤشر يتحرك، وللإيمان مؤشر, المؤشران يتحركان معاً، فينبغي أن يرحم بعضنا بعضاً، لا في العمل رحمة، رب العمل يجب أن ينفق في اليوم مئة ألف، ويجب أن يعطي الموظف خمسة آلاف في الشهر، والموظف يرى إنفاق صاحب العمل، يعني في النهاية يصير في حقد.
حينما تفكر أن هذا الذي أمامك إنسان, من حقه أن يأكل أكلاً جيداً، من حقه أن يسكن في بيت, من حقه أن يرتدي ثياباً, من حقه أن يربي أولاده، من حقه أن يطعمهم اللحم، كيف تعطيه راتباً لا يكفيه أيامًا؟ يتحكم في بطالة، لأنه يرضى معك بخمسة آلاف، وصاحب العمل ينفق في اليوم مئة ألف، هذا الحاضر، أنا أستمع إلى قسوة من أصحاب الأعمال, يقشعر منها البدن، من لا يرحم لا يرحم، وكلما أرى إنساناً يرحم، ولو كان مقصراً في العبادات, أتفاءل له في الخير.
لو كان لك قلب كالصخر، وتصلي كل يوم قيام الليل، الله عز وجل لا يقبله منك، لا يريد هذه العبادة، يريد أن ترحم عباده.
لئن تمشي في حاجة أخيك خير لك من صيام شهر واعتكاف:
أقول هذه الكلمة أخيراً: إنسان معتكف في مسجد النبي, رأى رجلا كئيبًا، قال له: مالي أراك كئيباً؟ قال: ديون لزمتني ما أطيق سدادها، قال: لمن؟ قال: لفلان، فهذا ابن عباس قال: أتحب أن أكلمه لك؟ قال: إذا شئت، فخرج ابن عباس من معتكفه، -والاعتكاف في رمضان من أجل العبادات-، قال له واحد: يا بن عباس أنسيت أنك معتكف؟ قال: لا والله ما نسيت أني معتكف، ولكن سمعت صاحب هذا القبر، والعهد به قريب، وبكى -والله كلام النبي الآن-: لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من صيام شهر، واعتكافه في مسجدي هذا.
صيام من رسول الله، واعتكاف من رسول الله, يفضله أن تمشي مع أخ في حاجته.
نحن إذا تراحمنا يرحمنا الله، والله ينصرنا، لكن في حياة المسلمين ظلم يهتز له عرش الرحمن، وقهر، وسحق، وتضييق من إنسان مسلم لإنسان مسلم، لا رحمة، لا أحد يرحم أحداً، كل واحد متمكن من شيء يفرض إرادته الظالمة على من حوله، فلذلك طريق النصر أن نتراحم، إذا تراحمنا يرحمنا الله، وإذا قسا بعضنا على بعض سقطنا من عين الله.
والحمد لله رب العالمين