بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم وترحيب :
أيها السادة المشاهدون ، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وأهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة من برنامجكم الإيمان هو الخلق . كنا في حلقاتنا المتسلسلة ، وفي محطاتنا التي كنا ننعم وإياكم بها في ظل علم الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة . أهلاً وسهلاً بالأستاذ الدكتور . أهلاً بكم أستاذ علاء .الأستاذ علاء : كنا قد تحدثنا عن مقومات التكليف خلال هذه السلسلة الطويلة من الحلقات ، وتحدثنا في مقومات التكليف عن الكون ، وأفردنا للكون مساحات واسعة ، وكذلك العقل ، ثم الفطرة ، ووضعنا رحالنا عند الشهوة . استغرقت قضية الشهوة ، وهي من مقومات التكليف استغرقت حلقتين ، ويبدو أن الموضوع لم ننتهِ منه بعد ، أستاذنا الدكتور ستوسع صدرك للأسئلة في هذا المنحى ، وهي قضية حساسة ، وهي بحاجة إلى شرح حتى لا يضيع ، ولا يتيه الفهم فيها . الشهوة شيء ، وهي حيادية كما تفضلت ، أودعها الله في عبادة في الجبلّة ، والمغالبة بين ما يشتهي من خلال الشهوة الإنسان ، وبين التكليف هذه المغالبة هي ثمن الجنة كما مر معنا . هنالك قضايا ملحقة بالشهوة ، مسألة العدالة والضبط ، الضبط هو الدقة في الوصف ، الدقة في الكلام ، الدقة في الفهم ، الدقة في التعبير ، والعدالة كما فهمناها من أساتذتنا هي الاستقامة ، لكن هذه العدالة لا تبقى على حالها ، هكذا حياة الناس وحياة البشر يعتور العدالة شيئان ، الشيء الأول يسقط العدالة ، الشيء الثاني يجرح العدالة ، ماذا عن هذا المفهوم ، وكيف نظر الشرع إلى هذه القضية وكيف عالجها ؟ .الدكتور راتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .مقدمة :
1 – الشهوة قوةٌ حيادية :
أستاذ علاء ، لابد من وقفة قصيرة جداً ، أربط الحلقتين السابقتين بهذه الحلقة . يتوهم الناس أحياناً أنه لولا الشهوات لما هلك الإنسان ، والحقيقة أنه لولا الشهوات لما ارتقى الإنسان إلى رب الأرض والسماوات ، هي قوة دافعة ، أو قوة مدمرة ، إذاً هي حيادية . كنت قد ضربت مثلاً حول الوقود السائل في السيارة ، إذا وضع في المستودعات المحكمة ، وسال في الأنابيب المحكمة ، وانفجر في الوقت المناسب ، وفي المكان المناسب ولّد حركة نافعة ، وأقلّتك أنت وأهلك وأولادك إلى مكان جميل ، وإذا صُبّ هذا الوقود السائل على السيارة ، وأصاب السيارة شرارة أحرق المركبة ومن فيها . الشهوة قوة دافعة ، إذا هي قوة مدمرة ، إذاً هي حيادية ، موقوفة على طريقة التعامل معها ، إما أن تكون الشهوة سلماً نرقى به إلى أعلى عليين ، أو دركات نهوي بها إلى أسفل سافلين ، والشهوات بمثابة المحرك في المركبة ، والعقل بمثابة المقود ، والشرع بمثابة الطريق ، فمهمة الشهوات الحركة ، مهمة العقل إبقاء المركبة على الطريق ، والشرع هو الطريق .2 ـ الشهوات سلّمٌ نرقى بها أو دركات نهوي بها :
إذاً : الشهوات لها معنى إيجابي ، ودائماً وأبداً حينما نتحدث عن الأوامر والنواهي ، ومعظم الأوامر والنواهي متعلقة بالشهوات ، متعلقة بشهوة النساء ، وشهوة المال ، فتكاد معظم الأحكام الفقهية تنصب على هذين الحقلين الكبيرين . إذاً الشهوات حيادية ، وسلم نرقى بها أو دركات نهوي بها ، وموقوفة على نوع استخدامها ، والشر ليس إلى الله ، إنه من صنع أيدينا ، كما قال عليه الصلاة والسلام :(( الشر ليس إليك ))
[ مسلم عن علي ] ثم إن الحقيقة يمكن أن تمثل بهذا المثل : هناك مساحيق بيضاء ثلاثة ، الأول سكر ، والثاني ملح ، والثالث مسحوق غسيل ، المساحيق الثلاثة مفيدة ونافعة ، ولها ثمن ، أما إذا وضعنا مسحوق الغسيل في الطبخ ، فسد الطبخ ، ولو وضعنا الملح في الحلويات فسدت .3 ـ الشر يأتي من سوء الاستخدام :
إذاً : الشر يأتي من سوء الاستخدام ، ليس هناك شر مخلوق ، الشر من سوء الاستخدام . مركبة رأيتها معجونة عجناً ، لأن الذي قادها كان ثملاً ، قد شرب الخمر ، ليس لشكل هذه السيارة الطارئ بعد سقوطها في الوادي ليس لها معملاً صنعها بهذه الطريقة ، المعمل صنع سيارة جديدة أنيقة رائعة ، لكن هذا الوضع الأخير نتج من سوء استخدامها ، من قيادتها ، والسائق ثمل .الأستاذ علاء : هل نستطيع أن نعتبر بأن الخير قديم ، وأن الشر طارئ ؟ .الدكتور راتب :مقدمة :
الأصل أن الله بيده الخير :﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
( سورة آل عمران ) لم يكن كما يتوقع بيدك الخير والشر ،﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾
فإيتاء الملك خير ، ونزعه خير ، أن يعز الله مخلوقاً خير ، وأن بذله خير ، لكن العلماء قالوا : هناك بعض أسماء الله الحسنى لا ينبغي أن تذكر إلا مثنى :* الضار النافع * لا ينبغي أن تقول : الله ضار ، هو ضار نافع ، أي يضر لينفع .* الخافض الرافع * ، يخفض ليرفع .* المذل المعز * ، يذل ليعز .* المانع المعطي * ، يمنع ليعطي . وقد قال ابن عطاء السكندري : " ربما أعطاك فمنعك ، وربما منعك فأعطاك ، وإذا كشفت لك الحكمة في المنع عاد المنع عين العطاء . هذا معنى قوله تعالى :﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
( سورة البقرة ) وقد قال بعض علماء العقيدة : الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين . هناك إنسان كان يطوف حول الكعبة يقول : يا رب ، هل أنت راضٍ عني ؟ كان وراءه الإمام الشافعي ، فقال : يا هذا ، هل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك ؟ قال : سبحان الله ! من أنت ؟ قال له : أنا محمد بن إدريس ، قال له : كيف أرضى عنه ، وأنا أتمنى رضاه ؟ قال : يا هذا ، إذا كان سرورك بالقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله . الحقيقة أن الطفل الصغير حينما يجلس على كرسي طبيب الأسنان فيتألم ، ويصرخ ، ويصيح ، وإذا كان صغيرًا جداً يضرب يد الطبيب ، أما الراشد فلا يتكلم ، مع أنه يتألم ، لكنه يوقن أن هذا لمصلحته . هذه مقدمة عن الشهوات ، هي حيادية ، وهي سلم نرقى بها ، أو دركات نهوي بها .من صفات المؤمن : العدالة والضبط :
من ملحقات هذا الموضوع صفتان يتصف بهما المؤمن ، العدالة والضبط . الضبط متعلق بعلم العقيدة ، أن يفهم الإنسان فهماً دقيقاً ، أن يملك ذاكرة قوية ، أن يعبر تعبيراً دقيقاً ، فمن فقد صفة الضبط لا يؤخذ عنه الحديث ، أما العدالة هي الاستقامة ، وقد ورد في بعض الأحاديث الشريفة أنه :(( من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم ولم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت أخوته ، وحرمت غيبته ))
[ورد في الأثر] لذلك :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾
( سورة الحجرات ) لكنه من عامل الناس فظلمهم ، وحدثهم فكذبهم فهو مستقيم ، لكن كفى بها خيانة أن تحدث أخاك بحديث هو لك به مصدق ، وأنت له به كاذب ـ وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم هو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت أخوته ، وحرمت غيبته ـ لكن من ظلمهم ، ومن كذبهم ، ومن أخلفهم سقطت عدالته ، وبالتعبير المعاصر سقطت حقوقه المدنية .الأستاذ علاء : سيدي الكريم ، من هنا لو سمحت لي بدأ علم مصطلح الحديث يأخذ أبعاده ، ووضع القواعد والأسس لتبيان الحديث الصحيح من الحديث المكذوب ، من الحديث الضعيف بالجرح والتعديل .الدكتور راتب :الكب من أقبح الصفات :
هذا الذي سافر من المدينة المنورة إلى البصرة ، ليتلقى حديثاً عن إنسان ، قبل أن يلتقي به أو قبل أن يحدثه وجده يوهم فرسه أن في رداءه طعاماً ، فلما أقبلت عليه الفرس لم تجد شيئاً ، فلم يلتق به ، وقال : الذي يكذب على فرسه لا يمكن أن يؤخذ عنه حديث لرسول الله . والنبي عليه الصلاة والسلام كان في بيت أحد أقربائه ، فقالت الزوجة لابنها : تعال هاك ، فقال عليه الصلاة والسلام : ماذا أردتِ أن تعطيه ؟ قالت : تمرة ، قال : كما أنك لو لم تفعلِ لعدت كذبة ، لكن وجد في جيبها تمرة ، لو كانت خالية لكانت كذبة . الصغير أحياناً يتعلم الكذب من أمه وأبيه ، لمجرد أن يقول الأب لابنه : قل له : لست في البيت ، فقد علّمه الكذب ، لمجرد أن تقول الأم لزوجها أمام بنتها : لم نخرج من البيت ، وقد خرجتا ، فقد تعلّمت البنت الكذب من أمها . لذلك في علم القيادة ، والحقيقة خطيرة جداً هناك مجموعة القيم ، والمبادئ ، والعادات والأساليب ، وأنماط المعيشة ، وأساليب النظافة ، هذه كلها تتكون في الطفل من السنة الأولى حتى السابعة ، كل القيم التي يطمح الأب أن تكون في ابنه والمبادئ ، والانضباط الأخلاقي ، والعادات الصحية في الأكل والشرب والنوم ، وفي العلاقات الاجتماعية ، مجموعة هذه القيم التي يطمح كل أب أن يكون ابنه متمثلاً لها هذه لا تغرس إلا في سنٍ مبكرة بين السنة الأولى والسابعة ، وبعد هذه السن العوض بسلامتك ، أي أن الطفل ثبت على عادات سيئة . لذلك يجب أن نعتني بالتعليم الابتدائي ، لأنه أخطر مرحلة في التعليم ، يجب أن يكون المعلم مربياً ، واعياً ، أخلاقياً ، أفقه واسع ، عنده أخلاق رفيعة جداً ، لأن أغلى شيء نملكه بين يديه ، وأغلى شيء نملكه بين يديه .الأستاذ علاء : كيف إذا جُرحت أو سقطت عدالة المربي أمام هذا الصف والتلاميذ ؟الدكتور راتب : يكفي أن يدخن أمامه .الأستاذ علاء : ثبت هذا الجرح في أذهانهم ، وتستقيم حياتهم إن صح التعبير ، أو تمشي على هذا الشيء ، وبعد السابعة لا نستطيع أن ننزع هذا الشيء ، إلا بشكل ضئيل جداً ، وبمجهود كبير .سقوط العدالة :
الدكتور راتب : إذاً : سقوط العدالة أن تحدث الناس فتكذبهم ، أو أن تعاملهم فتظلمهم ، أو أن تعدهم فتخلفهم . لكن جرح العدالة شيء آخر : تماماً كإبريق من البللور أمسكت مطرقة وكسرته ، هذا سقوط العدالة ، وقد يقع الإبريق فيشعر ، فيه خط ، هذا اسمه شعر ، فالعدالة تجرح جرحا . مثلاً : من أكل لقمة من حرام جرحت عدالته ، لا يريد أن يشتري ، أخذ قطعة فاكهة ، قال له البائع : خذ ، انتقى أكبر قطعة وأكلها ، ولا ينوي أن يشتري ، فكأنه أكل لقمة من حرام ، أو تطفيف بتمرة ، فلم يرجح الميزان ، أحياناً يضع بائع قطعة اللحم بقوة في الكفة فترجح ، أحيانا تأتي مروحة ، والمادة غالية جداً فترجح الكفة بفعل المروحة ، وأحياناً العبوة ثقيلة جداً ، يبيع مادة غالية جداً بعبوة رخيصة جداً بوزن ثقيل ، فكأنه باع هذه العبوة بمئة ضعف من ثمنها . لذلك تطفيف بتمرة يجرح العدالة ، أكل لقمة من حرام يجرح العدالة ، صحبة الأراذل ، الإنسان الأخلاقي المنضبط لا ينبغي أن يراه الناس مع من سقطت عدالته ، من كان لسانه بذيئاً ، من كان مزاحه رخيصاً ، صحبة هذا الإنسان الفاضل مع هذا الإنسان يجرح عدالته ، بل إن الماء الصافي العذب الزلال إذا خلطناه مع ماء آسن مَن الذي يتضرر ؟ الماء النظيف ، أما الماء الآسن في الأصل فهو آسن .الأستاذ علاء : هنالك من الشباب من يقول : أنا يا أخي مستقيم ، بالنسبة لي الحمد لله ، لا أرتكب المحارم ، بالنسبة لي أخاف الله ، لكن هؤلاء رفاقي بالحي ، إذا جالستهم لا أتأثر ، هل هذا الكلام صحيح ؟صحبةُ غير المستقيم بين الحقيقة والضوابط :
الدكتور راتب : أولاً مسموح في علاقات العمل ، يجب أن تكون ودوداً ، منضبطاً ، مطيعاً لرئيسك في العمل ، هذه علاقة عمل لا شائبة فيها إطلاقاً ، كلنا يعمل ، ففي مكان عمله أناس متفوقون ، متخلقون ، أخلاقيون ، غير أخلاقيين . حينما أقيم علاقات عمل فلا شيء عليّ فيها ، أما حينما أقيم علاقات حميمة مع أناس فاسدين كيف انسجمت معهم ؟ كيف ألِفت كلامهم ؟ كيف قبِلت أفكارهم ؟ كيف رضيت عن تصرفاتهم ؟ معنى ذلك أن هناك قواسم مشتركة ، لذلك أنت حينما تعرف الإنسان تعرفه من صديقه .﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾
( سورة التوبة )﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ﴾
( سورة الكهف الآية : 28 )ملمحٌ لطيفٌ :
كملمح لطيف ، لا تعني كلمة :﴿ أَغْفَلْنَا ﴾
أن الله خلق الغفلة في قلب هذا الإنسان ، معاذ الله ، معنى :﴿ أَغْفَلْنَا ﴾
بالضبط في المعاجم وجدناه غافلاً ، عاشرت القوم فما أجبنتهم ، أي ما وجدتهم جبناء ، عاشرت القوم فما أبخلتهم ، أي ما وجدتهم بخلاء :﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ﴾
﴿ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾
( سورة الكهف ) إذاً : لا بد من حمية اجتماعية ، هذا المؤمن الذي أراد أن يكون متفوقاً عند الله لا بد من أن يصحب المؤمنين ، لذلك :(( لا تصاحب إلا مؤمناً ، ولا يأكل طعامك إلا تقي ))
[أخرجه أحمد ، وأبو داود والترمذي وابن حبان ، والحاكم ، عن أبي سعيد ] هذا في العلاقات الحميمة أستاذ علاء ، علاقة متينة ، سهر طويل ، أما علاقات العمل فلك أن تلتقي مع أي إنسان في حدود الأدب ، في حدود أداء الواجب ، وفي حدود المصلحة العامة .الأستاذ علاء : سيدي الكريم ، الآن العدالة سقطت مثلاً ، أو جرحت ، كيف للجرح أن يرتق ؟الدكتور راتب :كيف يستعيد الإنسان عدالتَه ؟
﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾
( سورة هود الآية : 114 ) لولا أن باب التوبة مفتوح لهلك معظم الناس .(( يَا ابْنَ آدَمَ ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ ، إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً ))
[ الترمذي عن ابن عمر ](( إني والجن والإنس في نبأ عظيم : أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري ؟! ))
[ أخرجه الحكيم البيهقي ، عن أبي الدرداء ] حديث قدسي طويل في النهاية :(( إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب ، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد ، والسيئة بمثلها وأعفو ))
باب التوبة صمام أمان ، باب التوبة حبل إنقاذ ، باب التوبة رحمة من الله عز وجل ، بل إن الله يريد أن يتوب علينا .﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ﴾
( سورة البقرة الآية : 222 ) وما أمرنا أن نتوب إلا ليتوب علينا ، وما أمرنا أن نستغفره إلا ليغفر لنا .الأستاذ علاء : سيدي ، حتى يصل الإنسان إلى التوبة هل من خطوات جاء بها الشرع لتبيان للمعرفة ، لاستيضاح هذا الطريق ، العودة به إلى المدارج الصحيحة .خطواتٌ لاستيضاح طريق التوبة :
الدكتور راتب : عندنا مرض اسمه القاتل الصامت ، ارتفاع الضغط ، خطورة هذا المرض ليس له أعراضاً أبداً إلا ما ندر ، هو القاتل الصامت ، أنا أسأل ، متى أعالج ضغطي المرتفع ؟ عندما أعلم أن ضغطي مرتفع .طلبُ العلم :
إذاً : أول شيء في التوبة العلم ، يجب أن تطلب العلم لتعرف أين أنت من الشرع ؟ أين أنت من الاستقامة ؟ هل هذا الدخل صحيح ، أو غير صحيح ؟ مشروع أو غير مشروع ؟ هل هذه العلاقة مشروعة أو آثمة ؟ هل هذا المال الذي تكسبه حلال أم حرام ؟ لا بد من طلب العلم ، طلب العلم أول مرحلة في التوبة ، لن يتوب الإنسان من ذنب لا يعرفه ذنباً ، يراه محمَدةً ، لا يتوب الإنسان من ذنب عرفه ذنب . إذاً : قبل العلم كل شيء معطل ، إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما جميعاً فعليك بالعلم ، والعلم فرض عين على كل مسلم . لأن الإنسان كما تعلم أستاذ علاء هو في الأصل يشبه الجماد من نوع . الجماد : شيء مادي ، يشغل حيزاً في الفراغ ، وله أبعاداً ثلاثة ، وله وزن ، هذا الجماد . النبات : شيء آخر ، شيء مادي يشغل حيز في الفراغ ، وله أبعاد ثلاثة ، وله وزن ، لكنه ينمو . الحيوان : شيء مادي ، يشغل حيز في الفراغ ، وله أبعاد ثلاثة ، وله وزن و ينمو كالنبات ويتحرك ويمشي . الإنسان : شيء مادي ، له جسم ، وله وزن ، يشغل حيز في الفراغ ، وله أبعاد ثلاثة ، وله وزن ، و ينمو ويتحرك ويفكر ، فإن لم يفكر فقد إنسانيته ، أودع الله في الإنسان قوة إدراكية ، فما لم يبحث عن الحقيقة ، ما لم يتعرف إلى سر وجوده ، وغاية وجوده ، ما يتعرف إلى ربه ، ما لم يتعرف إلى شرعه العظيم فليس إنساناً بالمعنى الكامل .الأستاذ علاء : نريد أن نكمل بين يدينا الكثير من الموضوعات ، إن شاء الله نتابعها في حلقة قادمة ، والآن ماذا اخترت لنا من محطة علمية في هذه الحلقة ؟خَلْقُ الإنسان :
الدكتور راتب : اخترت لإخوتي المشاهدين خلق الإنسان ، أي نحن كيف خلقنا ؟﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾
( سورة الطور )﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾
( سورة الذاريات ) الفيلم الذي نتابعه بعونه تعالى بعد قليل يتحدث عن الإنسان ، كيف خُلق ؟ وفي أي المراحل قد مر ، هذا الفيلم يتحدث عنا جميعاً ، والآن لنقم برحلة زمنية قصيرة ، ونرجع مدة إلى الماضي ، وندقق معاً هذه الحكاية الرائعة ، المليئة بالمعجزات ، ولنشاهد كيف كان حال الإنسان في حين من الدهر ؟هكذا بدأ خَلقُ الإنسان : خلية البويضة :
خلية واحدة كما ترون أيها الإخوة ، خلية واحدة فقط في بطن الأم ، وجود عاجز ومحتاج إلى حماية ، أصغر من حُبيبة ملح واحدة ، وأنتم ، ونحن ، وجميعاً كنا هذه الخلية الصغيرة التي انقسمت إلى قسمين ، ثم إلى أربع ، ثم أصبحت أربع خلايا ، ثم ثمانيًا ، ثم ست عشرة ، واستمرت الخلايا بالتكاثر ، ثم ظهرت أول قطعة لحم ، ثم أخذت قطعة اللحم شكلاً ، وأصبح لها يدان ، ورجلان ، وعينان ، الخلية الأولى كبرت مئة مليار ضعف ، وأخذت وزناً لستة مليار ضعف ، فالتي كانت قطرة ماء فقط بالسابق أجر الله تعالى فيها معجزات عدة ، فخلق منها الإنسان الذي يتابع هذا الفيلم ، وقد بين القرآن الكريم كيف خُلق الإنسان ، قال تعالى :﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى *أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾
( سورة القيامة ) أيها الإخوة الكرام ، تبدأ أول مرحلة في معجزة الخلق لنضج خلية البويضة في عضو في جسم المرأة يسمى المبيض ، أو مرحلة أن خلية اسمها البويضة تنضج في عضو في جسم المرأة اسمه المبيض ، هناك رحلة طويلة أمام البويضة الناضجة ، تدخل أولاً في قناة فالوب ، وهنا ستقطع مسافة طويلة حتى تصل إلى الرحم ، في قطع هذه المسافة شيء معجز ، هذه النطفة أصبحت طفلاً سوياً :﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ ﴾
هذه البويضة تبدأ بالحركة لتدخل في قناة فالوب ، الحقيقة أن المدة قصيرة جداً ، تحاول قناة فالوب أن تجذب البويضة إليها ، بلمسات خفية على المبيض ، ونتيجة هذا البحث تجد قناة فالوب البويضة الناضجة ، وتسحبها لداخلها ، وحينئذٍ تبدأ رحلة خلية الناضجة في قناة فالوب الشيء الذي لا يصدق هو : إن حركة هذه البويضة في قناة فالوب فيها إعجاز في الخلق ، ذلك لأن هذه البويضة ليس لها أرجل ، وليس لها أدواة حركة إطلاقاً ولا زعانف ، ولا شيء ، لكن قناة فالوب فيها شعيرات تتحرك باتجاه الرحم ، وتنقل البويضة ، وسوف نرى ، يتوجب على البويضة قطع الطريق الطويل عبر قناة فالوب ، لكن ليس لها أي عضو يؤمن لها هذه الحركة لذلك خلايا القناة تحمل خلية البويضة من يد إلى يد ، إلى الجهة التي هذه البويضة ، وهذه في قناة فالوب وهذه صور مأخوذة من المناظير وهي صور حقيقية ، تأخذ قناة فالوب البويضة برفق إلى جهة هذه الأشعار التي تتحرك ، وتنقل البويضة عبر قناة فالوب . وعندما ندقق في هذه الشعيرات نجدها قد نسقت في المكان والشكل الذي يجب أن تكون عليه ضمن خطة ذكية جداً ، وتقوم معاً بحركة نقل إلى الجهة نفسها ، وكأنها آلة مبرمجة لذلك ، فلو لم يقم قسم من هذه الخلايا بمهمته ، أو قام بنقلها إلى جهات مختلفة فلن تصل البويضة إلى هدفها ، ولا تتحقق الولادة أبداً ، ولكن خلق الله تام في كل خلية تنفذ مهمتها التي أوكلت إليها دون أي خطأ ، وهكذا تتقدم البويضة إلى المكان المجهز خصيصى لها ، أي إلى رحم الأم ، لكن خلية البويضة المنقولة بدقة بهذا الشكل عمرها لا يتجاوز 24 ساعة ، وتموت ما لم تلقح في هذه المدة ، وتحتاج إلى المادة الحياتية للتلقيح ، إذاً : تحتاج إلى نطفة من جسم الرجل . هذه الصور أخذت بمناظير ضمن أجهزة المرأة ، مكبرة ألوف المرات ،﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ ﴾
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴾
( سورة الطارق )الأستاذ علاء :خاتمة وتوديع :
تبارك الله في صنعه ، وخلقه ، وفي ما كوّنه في هذا الكون ، لا يسعني إلا أن أشكر أعزائي المشاهدين أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة . ونعدكم إن شاء الله تعالى أن نكمل الحديث عن مقوم التكليف وهي الشهوة ، وأن نستكمل في الحلقة القادمة إن شاء الله ، شكراً لكم وإلى اللقاء . والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .والحمد لله رب العالمين