بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2008-03-10
258ـ أ ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ *وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ *وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ* فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ ٍ﴾ (البلد11:ثمانية)
هذه الآيات القرآنية الأربع جاءت في منتصف سورة البلد, وهي سورة مكية, وآياتها عشرون بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود القسم في مطلعها بالبلد الحرام, مكة المكرمة, أم القري, أشرف بقاع الأرض, وأحبها إلي الله ـ تعالي ـ, وهي موطن الكعبة المشرفة, بيت الله الحرام, أول بيت وضع للناس في الأرض, ومكة المكرمة هي مكان ميلاد كل من نبي الله إسماعيل, وحفيده خاتم الأنبياء والمرسلين, وسيد الأولين والآخرين من ولد آدم سيدنا محمد بن عبدالله النبي العربي القرشي ـ صلي الله عليه وسلم ـ. ويؤكد القسم في مطلع هذه السورة المباركة أن الله ـ تعالي ـ قد زاد مكة المكرمة تشريفا, وتعظيما, وحرمة, بميلاد خاتم الأنبياء والمرسلين, وبإقامته أغلب عمره الشريف علي أرضها.ويدور المحور الرئيسي للسورة حول عدد من ركائز العقيدة الإسلامية ومنها حرمة مكة المكرمة, وعلو مقام رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ عند رب العالمين, كما يدور حول شيء من خلق الإنسان وطبائعه ووسائل نجاته في الدنيا والآخرة, ومصيره في كل منهما, والاستدلال بعدد من المعجزات في الخلق علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة وعلي صدق كل ما جاء بالسورة المباركة من أخبار.وتبدأ سورة البلد بتوجيه الخطاب إلي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ له:
﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ*وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ*وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ*لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ (البلد:1 ـ4).
ونفي القسم في اللغة العربية مبالغة في توكيده, علما بأن الله ـ تعالي ـ غني عن القسم لعباده, ولكن إذا جاءت الآية القرآنية الكريمة بصيغة القسم كان ذلك من قبيل التأكيد لنا ـ نحن معشر المسلمين ـ علي أهمية كل من الأمر المقسم به, والمقسم عليه( أي جواب القسم), وهو هنا( خلق الإنسان في كبد). ولفظة( كبد) تحتمل معنيين: أولهما الاستواء والاستقامة إشارة إلي خلق الإنسان في أحسن تقويم, وثانيهما الشدة والمشقة, وذلك لأن حياة الإنسان علي الأرض كلها شدائد ومشقات أي مكابدة لا يزال يقاسيها من لحظة نفخ الروح فيه إلي لحظة نزعها منه, مرورا بحمله وولادته, ورضاعه وفطامه, وطفولته وصباه, وشبابه وفتوته, ثم كهولته وشيخوخته إن وصل إليها ولم يدركه الموت قبل بلوغها, ثم وفاته وقبره, ثم بعثه وحشره, وحسابه وجزائه, ثم خلوده إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا. وهذا أقرب للمعني لأن أصل( الكبد) الشدة والمشقة, وذلك من القول( كبد) الرجل( كبدا) إذا مرض بكبده, والكبد هو الجهاز المنظم لأغلب العمليات الحيوية في جسم الإنسان, وفي مقدمتها استقبال نواتج هضم الغذاء,وتحويل سكر الجلوكوز إلي مركب ا لجلايكوجين الذي يختزن فيه إلي وقت الحاجة إليه, كما ينتج الكبد كلا من المادة الصفراء, والعديد من الفيتامينات, والمواد المعينة علي تجلط الدم, وتقوم بتكسير الدهون, وبانتزاع الزائد من الأحماض الأمينية, وكل السموم, والمعطوب من الخلايا من الدم, ويحول ذلك إلي الكليتين لطرده إلي خارج الجسم مع البول. ولذلك فإن كبد الإنسان إذا مرضت أنهكته العلل المختلفة, ومن هنا استخدم الفعل( كبد كبدا) للتعبير عن كل تعب ومشقة يمكن أن يمر بهما الإنسان, واشتقت منه( المكابدة) لتصف كل معاناة للشدائد.والآيات الأربع الأولي من سورة البلد جاءت في مقام التكريم والمواساة لرسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ مما كان يعانيه من الكفار والمشركين من مختلف صنوف المعارضة والإيذاء, ولايزال ذلك مستمرا إلي يومنا الراهن.
وتبدأ السورة المباركة بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ: لا أقسم بهذا البلد أي: أقسم قسما مغلظا بهذا البلد الحرام( مكة المكرمة) الذي أنشأ الله ـ تعالي ـ أرضه كأول جزء من اليابسة, وحرمه يوم خلق السماوات والأرض, ثم أرسل ملائكته لتبني عليه أول بيت وضع للناس, وتجعل حرمه مهبط الرحمات والبركات, وجعله حرما امنا يجبي إليه ثمرات كل شيء..., ولذلك أقسم ربنا ـ تبارك وتعالي ـ بمكة المكرمة تشريفا لها وتكريما ـ وهو الغني عن القسم لعباده, وأتبع هذا الاستهلال بخطاب موجه إلي خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ يقول له فيه: وأنت حل بهذا البلد أي: وأنت يا محمد ساكن بهذا البلد ومقيم فيه, فازداد بوجودك حرمة, وتكريما, وتشريفا, ومهابة, ورفعة, وبرا, وفي ذلك من التأكيد علي مقام رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ عند ربه ما فيه, لأن زيادة أشرف بقاع الأرض شرفا وأكثرها عند الله حرمة, شرفا وحرمة بوجوده ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فيها ما يؤكد ذلك ويدعمه, وبناء علي ذلك كان ـ صلي الله عليه وسلم ـ الوحيد من بين جميع خلق الله الذي أحلت له مكة المكرمة ساعة من نهار.ثم جاء القسم الثالث بقول ربنا ـ سبحانه وتعالي ـ: ووالد وما ولد أي: وأقسم بمعجزة إخراج هذا الكم الهائل من البشر من أب واحد وأم واحدة, وهي من أعظم معجزات الله ـ تعالي ـ في الخلق. ثم يأتي جواب القسم: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾.
وبعد ذلك تنتقل الآيات إلي الحديث عن شيء من طبائع الإنسان إذا فقد إدراكه لرسالته في هذه الحياة: عبدا لله, من المفروض أن يعبده بما أمر, ومستخلفا في الأرض من أجل عمارتها وإقامة شرع الله وعدله فيها, وإذا لم يدرك الإنسان ذلك فإنه يكفر بالله ـ تعالي ـ أو يشرك به, وينكر الآخرة فيتحول إلي جبار في الأرض يطغيه ما يهبه ربه من قوة في البدن, ووفرة في الرزق, فيغتر بقوته وماله ويدفعه ذلك إلي التجبر علي من هم دونه من الخلق, وإلي جحود نعم الله ـ تعالي ـ عليه, والكفر بها. والآيات نزلت في واحد من كفار قريش كان اسمه أبو الأشد بن كلدة, ولكن يبقي حكمها عاما إلي قيام الساعة, وفي ذلك تقول الآيات بصيغة الاستفهام الإنكاري التوبيخي:﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ*يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً*أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾(البلد:5 ـ7).
أي: أيظن هذا الكافر الجاحد أن قوته الجسدية قد غرته إلي الحد الذي تصور معه أنه لا يغلب, وأين هذه القوة البشرية الهزيلة ـ مهما بلغت ـ أمام قدرة الله ـ تعالي ـ؟ وكان هذا الكافر ـ وأمثاله كثيرون في زمانه وفي كل عصر ـ يتشدق بالقول: أهلكت مالا كثيرا في العداء لرسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ ولدعوته الإسلامية القائمة علي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر, وبالقدر خيره وشره, والمؤسسة علي قاعدة راسخة من التوحيد الخالص لله ـ تعالي.وكان هذا الكافر الجاحد الفاجر يقول ذلك رياء وسمعة, وعبر عن الإنفاق بالإهلاك طغيانا وكبرا وإظهارا لعدم الاكتراث بالمال. وترد الآيات عليه بسؤاله: أيظن هذا المأفون أن الله ـ تعالي ـ الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور لم يحط بعداوته للحق ولم يره حين كان ينفق ماله لمحاربة رسول الله وللصد عن دعوته إلي الدين الحق؟والآيات تنطبق علي إنسان لا يكاد يخلص من عناء الكد والكدح, ثم ينسي حاله لمجرد أن الله ـ تعالي ـ قد أعطاه شيئا من قوة البدن, أو السعة في الرزق فيطغي علي غيره من الخلق ويبطش بهم, ويبالغ في سلبهم ونهب أموالهم, ويتمادي في فجوره وفسقه, كأنه لن يحاسب علي عمله, ولن يستطيع أحد الوقوف في وجهه, وإذا دعي للمشاركة في أي عمل خيري أعرض ونأي بجانبه, قائلا: حسبي ما أنفقت من قبل وبذلت, ناسيا أن الله ـ تعالي ـ مطلع عليه, ومحيط به وبأعماله وأقواله.وتستمر الآيات في استعراض عدد من أنعم الله علي عباده فتقول بصيغة الاستفهام التقريري للتذكير بتلك النعم:﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ *وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ *وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ ( البلد10:ثمانية).
وهذه من النعم الظاهرة لله علي كل عبد من عباده, يقرر كل كافر ومشرك وجاحد بها كي يشكره عليها, وفي كل منها من جوانب الإعجاز في الخلق ما يشهد للخالق ـ سبحانه وتعالي ـ بالألوهية, والربوبية, والوحدانية المطلقة فوق جميع خلقه, فتقارع نوازع الكفر أو الشرك أو الجحود في عقل وقلب كل منكر للحق. خاصة أن الله ـ تعالي ـ قد بين طريقي الخير والشر, والهدي والضلال لكل إنسان سوي في فطرته التي فطره الله عليها, وفي الهداية الربانية التي أنزلها علي سلسلة طويلة من الأنبياء والمرسلين, والتي أكملها وأتمها, وحفظها في القرآن الكريم, وفي سنة خاتم المرسلين ـ صلي الله عليه وسلم.ثم ضرب الله ـ تعالي ـ مثلا للناس من أجل دعوتهم لمجاهدة النفس, وهواها, ولسد مداخل الشيطان إليها, وذلك بفعل الخيرات, وترك المنكرات, مهما كلف ذلك من مشقة وتعب, وإنفاق للأموال والأوقات فقال ـ تعالي ـ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ *فَكُّ رَقَبَةٍ *أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ *يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ *أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ ( البلد:11 ـ16).
و(العقبة) هي الطريق الوعر في الجبل, واستعير هنا للأعمال الصالحة لأنها تشق علي النفس, و(اقتحامها) معناه الدخول إليها بسرعة وشدة, ومن قبيل تعظيم هذا العمل من أجل تحبيب الناس فيه جاء السؤال التفخيمي التعظيمي: وما أدراك ما العقبة ثم جاء بتفصيلها( فك رقبة) أي: عتق رقبة في سبيل الله,( أو إطعام في يوم ذي مسغبة) أي: إطعام الفقير ذي القرابة, أو المسكين المعدم البائس في يوم ذي مسغبة أي: ذي مجاعة عصيبة مع التعب الشديد والإجهاد للجائعين, وهي حالة عادة ما يشق فيها علي النفس إخراج المال في سبيل الله.وتختتم سورة البلد بمزيد من وصف المقتحمين للعقبة بأنهم لابد أن يكونوا صادقي الإيمان بالله ـ تعالي ـ, متواصين فيما بينهم بالصبر علي الطاعة, وبالرحمة والشفقة علي الضعفاء والمساكين في مجتمعهم وهؤلاء هم أهل اليمين في الآخرة الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم ويدخلون الجنة مع الفائزين, وفي مقابلة دقيقة تذكر السورة في ختامها الذين كذبوا نبوة الرسول الخاتم, وجحدوا رسالته الشريفة وكذبوا بالقرآن الكريم بأنهم سيكونون في الآخرة ممن يأخذون كتبهم بشمائلهم, ويدعون إلي نار جهنم دعا, ثم تطبق عليهم وتغلق إغلاقا كاملا إلي أبد الآبدين, وفي ذلك تقول الآيات:
﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ *أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ *وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ *عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ﴾ ( البلد:17 ـ20).
من ركائز العقيدة في سورة البلد
(1) الإيمان بحرمة مكة المكرمة, البلد الحرام, التي حرمها الله ـ تعالي ـ يوم خلق السماوات والأرض, وأمر ملائكته ببناء الكعبة المشرفة علي أرضها استعدادا لمقدم أبينا آدم ـ عليه السلام ـ الذي نزل بها بعد خلقه, ثم زارها كل أنبياء الله ورسله حجاجا ومعتمرين, وولد بها كل من نبي الله إسماعيل وحفيده خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين ـ.
(2) اليقين بشرف رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ ومنزلته الرفيعة عند رب العالمين, وقد جعل منه إمام الأنبياء والمرسلين وسيد الخلق أجمعين.
(3) التسليم بانتهاء نسب البشرية كلها إلي أب واحد, وأم واحدة.
(4) التصديق بأن الإنسان خلق في كبد أي في شدة ومشقة.
(5) التسليم بأن الله ـ تعالي ـ سميع, عليم, خبير, بصير, لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
(6) الإيمان بأن الله ـ تعالي ـ هو خالق كل شيء, وأنه جعل للإنسان عينين ولسانا وشفتين, ووهبه عقلا وإرادة حرة يختار بهما طريق الخير أو طريق الشر, ودعاه إلي فعل الخيرات, وإلي ترك المنكرات, ووعده بحساب وجزاء عادلين في الآخرة.
(7) اليقين بأن الذين آمنوا بالله ـ تعالي ـ ربا واحدا أحدا, فردا صمدا, بغير شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة ولا ولد, وآمنوا بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر, وعملوا الصالحات, وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة فإن مصيرهم إلي الجنة خالدين فيها أبدا, وأن الذين كفروا بالله ـ تعالي ـ, وكذبوا أنبياءه ورسله, وأنكروا بعثة خاتمهم أجمعين, وتطاولوا عليه وعلي القرآن الكريم فإن مصيرهم إلي النار خالدين فيها أبدا.
من الإشارات العلمية في سورة البلد
(1) الإشارة إلي خصوصية مكة المكرمة.
(2) التأكيد علي أن التناسل هو السنة التي وضعها الله ـ تعالي ـ من أجل إعمار الحياة علي الأرض.
(3) الجزم بخلق الإنسان في كبد, أي: في مشقة وشدة.
(4) التلميح إلي الإعجاز في خلق كل من عيني الإنسان وبقية جهازه البصري, وخلق لسانه وجعله قادرا علي البيان, وفي دقة بناء شفتيه.
(5) التلميح إلي ما وهب الله ـ تعالي ـ الإنسان من عقل يميز به بين الحق والباطل, وبين الخير والشر, وإرادة حرة يختار بها ما يريد, وعلي أساس اختياره يحاسب حسابا دقيقا وذلك بقوله ـ تعالي ـ: وهديناه النجدين( البلد:12).
(6) الإشارة إلي شيء من طبائع النفس البشرية في حالات الإيمان, والكفر, والكرم والبخل, والقوة والضعف.
(7) التعبير عن شدة نار جهنم بوصف أن تلك النار مؤصدة, أي: مطبقة مغلقة.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها, ولذلك فسوف أقصر حديثي في المقال القادم إن شاء الله علي النقطة الرابعة من القائمة السابقة التي جاءت في الآيات(8 ـ10) من سورة البلد.