بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2008-04-21
هذه الآية الكريمة جاءت في بدايات الثلث الثاني من سورة يوسف وهي سورة مكية, وعدد آياتها إحدي عشرة ومائة بعد البسملة, وقد تفردت باستعراض قصة هذا النبي الصالح بتفاصيلها, والذي جاء ذكره عليه السلام في كل من سورتي الأنعام وغافر, بينما جاءت سير غيره من أنبياء الله ورسله إما مجملة في جزء من سورة, أو مفصلة علي مراحل في عدد من السور, علما بأن سبعا من سور القرآن الكريم تحمل أسماء غيره من أنبياء الله ورسله من أمثال: نوح, هود, إبراهيم, يونس, طه, يس, محمد( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين), أو أسماء جماعة أو فرد من الصالحين من أمثال: آل عمران, مريم, ولقمان( رضي الله تعالي عنهم) أو بعض صفات الصالحين من أمثال: سورتي الأنبياء و المؤمنون.
ويبدو ـ والله تعالي أعلم ـ أن الحكمة من وراء إجمال قصة سيدنا يوسف عليه السلام في سورة واحدة هي تثبيت خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم في وقت من أوقات الشدائد التي لقيها من كفار و مشركي العرب, بعد وفاة كل من زوجته الوفية أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد ـ رضي الله عنها ـ وعمه أبي طالب وكانا ـ بعد الله تعالي ـ سندي رسول الله صلي الله عليه وسلم في الدنيا أمام اضطهاد كفار قريش له خاصة, وللمسلمين( عامة) في مكة المكرمة, وكان قد زاد الموقف حدة تخلي أهل الطائف عن مناصرته صلي الله عليه وسلم, وتآمر الكفار والمشركين في مكة علي قتله, أو سجنه, أو نفيه بعد بيعتي العقبة الأولي والثانية; وبعد سيادة الشعور العام بتعاظم خطر الإسلام والمسلمين, وتكوين قاعدة لهم بالمدينة المنورة وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم قد أمر بالاستعداد للهجرة, وعز عليه مفارقة مكة المكرمة ـ أشرف بقاع الأرض وأحبها إلي الله ورسوله ـ وما ساوره صلي الله عليه وسلم في ذلك الوقت العصيب من مشاعر الوحشة والغربة, والانقطاع عن الكعبة المشرفة, وعن الأهل والأحباب, الذين بقيت منهم بقية في مكة وإن كان أغلب أصحابه قد هاجروا بالفعل إلي المدينة المنورة.
وسط هذه الشدائد والابتلاءات والمحن أنزلت سورة يوسف علي رسول الله صلي الله عليه وسلم تروي قصة أخ له من أنبياء الله السابقين, وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.. علي نبينا وعليهم جميعا من الله أفضل الصلاة وأزكي التسليم.. وقد عاني من الابتلاءات والمحن ما كان في سرده شيء من التثبيت لخاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم, ولصحابته الكرام ـ عليهم رضوان الله ـ ولكل مسلم من بعدهم إلي يوم الدين.
فمنذ نعومة أظفاره مر نبي الله يوسف عليه السلام بقدر من الابتلاءات لا يقوي علي حملها كثير من الناس, ابتداء بكيد إخوته له, وتآمرهم عليه ثم إلقاؤهم به في غيابة الجب وهو طفل صغير, وما صاحبه في هذا الوضع المخيف من رعب ووحشة وحزن, بعد الرعاية الفائقة التي كان قد تعود عليها في ظل والديه, ثم محنة انتشاله من قاع البئر, وبيعه رقيقا, ينقله مالكوه من يد إلي يد, بغير إرادة منه, ولا مشورة معه, وهو النبي ابن النبي ابن النبي ابن النبي, ثم محنة افتتان زوجة العزيز به, وولهها وهيامها بحبه, ومحاولتها فتنته عن فطرته السوية التي فطره الله تعالي عليها, ومحنة ما جمعت له من نسوة تستعين بهن علي فتنته, ومحنة السجن دون ذنب أو خطيئة, ثم الابتلاء بعد ذلك بالجاه والسلطان والسعة في الرزق, والتمكين في الأرض بالقيام علي خزائن مصر, ثم الابتلاء بلقائه مع إخوته الذين سبق لهم أن ظلموه وجاروا عليه بالكيد له, وانتهاء بالابتلاء الكبير الذي تمثل في تحقق رؤياه القديمة وسجود أبويه وإخوته له علي العرش بعد أن جمع الله شملهم علي أرض مصر الطيبة.
وقد صبر يوسف صلي الله عليه وسلم علي جميع هذه الابتلاءات والمحن صبر المؤمن بالله, الموقن بإلوهيته, وربوبيته, ووحدانيته وتجلد تجلد الصابر المحتسب, طلبا لمرضاة الله, وتسليما لقضائه, ورضا بقدره, وإيمانا بأنه الخير كل الخير, رغم كل ما لاقي من شدائد ومحن, وهكذا يجب أن يكون كل مسلم.
ومما يثير الإعجاب حقا أن هذه الابتلاءات والشدائد والمحن التي مر بها سيدنا يوسف عليه السلام لم تعقه لحظة عن دعوته إلي الإسلام الخالص, القائم علي توحيد الله, وتنزيهه عن كل وصف لا يليق بجلاله, حتي في أشد ساعات الابتلاء والامتحان صعوبة, ويذكر لنا القرآن الكريم رده علي زميليه في السجن حيث يقول: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ﴾ ( يوسف:39).
وبهذا الإيمان الراسخ بالله الواحد القهار خرج نبي الله يوسف عليه السلام من كل هذه الابتلاءات والمحن والشدائد وهو أصلب عودا, وأقوي علي مجابهة الحياة, وأكثر إخلاصا وتجردا لعبادة الله وحده, وحبا له, وتفانيا في إرضائه, ولذلك كانت أكبر أمنياته في لحظة الانتصار أن يتوفاه الله مسلما, وفي ذلك يقول لنا القرآن الكريم في ختام قصة يوسف عليه السلام:
﴿ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقاًّ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ البَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ (يوسف:99 ـ101) .
وهكذا كان في قصة نبي الله يوسف عليه السلام أجمل مواساة لخاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم في الابتلاءات والمحن والشدائد التي مر بها قبل الهجرة, وأعظم تطمين له بحتمية الانتصار علي أعداء الله وأعدائه, وأجمل بشري بقرب التمكين له في الأرض كما سبق وأن مكن الله ـ تعالي ـ لنبيه يوسف عليه السلام بعد ما مر به من الابتلاءات. ومثل هذه البشريات لا تدركها إلا القلوب العامرة بالإيمان بالله والمطمئنة بمعيته سبحانه وتعالي والمسلمة بقدر الله وقضائه, والموقنة بأن فيه الخير كل الخير حتي لو بدا لنا بمقاييسنا البشرية المحدودة أنه ليس في صالحنا, وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ:
﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ * وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ ( يوسف:56 ـ57).
وفي الآية الأخيرة إشارة واضحة إلي ضآلة شأن الدنيا إذا قورنت بالآخرة, وتأكيد علي أن كل محنة وابتلاء وشدة يمر بها المؤمن في هذه الحياة الدنيا هي من أجل تزكية نفسه, وتطهير بدنه, وتكفير سيئاته, ورفع درجاته, وزيادة أجره ولذلك فإن سورة يوسف التي بدأت برؤياه وانتهت بتحقيق تلك الرؤيا ختمت بقول الحق ـ تبارك وتعالي ـ مخاطبا خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم:
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ القُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ (يوسف:108 ـ111)
وجاءت قصة نبي الله يوسف عليه السلام في ثمان وتسعين آية, وختمت بخطاب إلي رسول الله صلي الله عليه في عشر آيات وقدم لها ربنا ـ تبارك وتعالي ـ بثلاث من الآيات كانت أولاها﴿ الـر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ ﴾ (يوسف:1) .
والحروف المقطعة الثلاثة( الر) تكررت خمس مرات في مطلع خمس من سور القرآن الكريم, وجاءت مرة سادسة مع إضافة الحرف م( المر). وهذه الحروف الهجائية المقطعة التي جاءت بأربع عشرة صيغة, في مطلع تسع وعشرين سورة من سور القرآن الكريم في أحد الآراء, أو سبع وعشرين سورة في رأي آخر, تعتبر من أسرار هذا الكتاب العزيز الذي فوض كثير من المفسرين العلم فيها إلي الله ـ تعالي ـ وحاول بعضهم إيجاد تفسير لها, فمنهم من رأي أنها رموز إلي كلمات أو معان, أو أعداد معينة, ومنهم من رأي أنها أسماء للسور, أو أنها قصدت لإظهار التحدي بالقرآن الكريم, وللدلالة علي إعجازه, أو قصد منها تنبيه السامع, أو جعلها فواتح للكلام, ومنهم من يري أن هناك روابط معنوية بين الحروف المقطعة وسورها, أو روابط رياضية بين تلك الحروف المقطعة وعدد مرات ورودها في السورة, بمعني وجود قانون رياضي يربط توزيع الحروف في سور هذا الكتاب العزيز الذي نزل منجما: آية آية, أو بضع آيات بضع آيات, وفي حالة قصار السور وفي بعض الحالات النادرة جاءت السورة كاملة, ومن المفسرين من يري أن الله ـ تعالي ـ أراد بتلك الحروف المقطعة شهادة علي صدق خاتم أنبيائه ورسله صلي الله عليه وسلم لنطقه بأسماء الحروف ـ وهو الأمي ـ والأمي ينطق بأصوات الحروف ولا يعرف أسماءها, لأن النطق بأسماء الحروف لا يعرف إلا بالتعلم والمران, ومن العلماء من يري الجمع بين هذه الرؤي كلها, مع إمكانية إضافة غيرها إليها.
والحروف المقطعة الثلاثة( الر) التي استهلت بها سورة يوسف عليه السلام كأنها تخاطب العرب ـ وهم في قمة الفصاحة والبلاغة وحسن البيان ـ فتقول لهم إن كلامكم يتركب من تلك الحروف الهجائية وأمثالها, وكذلك القرآن الكريم كله, وقد تحداكم ربكم أن تأتوا بقرآن مثله, أو بعشر سور من مثله, أو حتي بسورة واحدة من مثله ففشلتم وعجزتم عن ذلك مما يجعل هذا الكتاب المبين حجة عليكم أجمعين, ولذلك جاءت الآية الثانية من سورة يوسف بقول الله سبحانه وتعالي:
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ (يوسف: 2).
ووجه الخطاب في الآية الثالثة إلي خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم وذلك بقول الحق تبارك وتعالي:
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ ﴾ (يوسف:3).
وذلك لأن قصة نبي الله يوسف عليه السلام كانت بالنسبة إلي خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ من أنباء الغيب كما أشار الله تعالي إلي ذلك في عشر آيات من هذه السورة المباركة, فلم يكن رسولنا الخاتم صلي الله عليه وسلم يعلم شيئا عنها قبل أن يتنزل عليه الوحي بها, فقد عاش موسي ـ عليه السلام ـ في مصر من(1730 ق. م.) إلي(1580 ق. م) وبعث المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم ـ سنة(610 م) أي كان بينهما2340 سنة ولم تكن الغالبية الساحقة من أهل الأرض تذكر شيئا عن قصة نبي الله يوسف باستثناء قلة نادرة من أحبار اليهود الذين كانوا مبعثرين في جيوب قليلة من الجزيرة العربية, وكان أغلبهم من البدو الجهلاء قليلي العلم, أو من الأميين الذين لا يقرأون.
والمقارنة بين قصة سيدنا يوسف عليه السلام كما جاءت في القرآن الكريم, وكما جاءت في العهد القديم توضح الفارق الشاسع بين كلام الله وكلام البشر, والتشابه في القصة الكريمة مرده إلي وحدة المصدر السماوي, والاختلاف في الأسلوب والمحتوي والتفاصيل مرده إلي قدر هائل من التحريف الذي تعرضت له رسالة سيدنا موسي ـ علي نبينا وعليه من الله السلام.
هذا وسوف نعرض ان شاء الله ـ تعالي ـ في المقالين القادمين لركائز العقيدة والإشارات الكونية في سورة يوسف, ثم نوضح ومضة الإعجاز التاريخي في الآية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال