بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2001-12-01
" ما من عام بأقل مطرًا من عام "(البيهقي).
أخرج الإمام البيهقي ـ يرحمه الله ـ في السنن الكبرى برقم 6275 (الجزء الثالث , ص 363 من طبعة الهند) هذا الحديث الشريف الذي رواه ابن مسعود ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولفظه : " ما من عام بأقل مطرًا من عام "
وهذا الحديث الشريف أخرجه الحاكم في المستدرك برقم 3520 (الجزء الثاني , ص 403 من طبعة الهند) مروياً عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بلفظ : " ما من عام بأمطر من عام , ولكن الله يَصْرِفُهُ ـ أو يُصَرِّفُه ـ .
وعلى الرغم من أن النص الأول موقوف على ابن مسعود ، والنص الثاني موقوف على ابن عباس ـ رضي الله عنا وعنهم أجمعين ـ , مما دفع ببعض دارسي الحديث إلى تضعيف الرفع لعدم فهم دلالته العلمية , فإن هذا الحديث الشريف يمثل سبقًا علمياً للمعارف الإنسانية بأكثر من ألف وأربعمائة سنة , كما يمثل نصاً رائعاً من نصوص الإعجاز العلمي في أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ومن هنا تأتي قوته , فقد ثبت لنا بعد دراسات مستفيضة لتقدير كمية الماء على سطح الأرض أنها كمية هائلة إذ تقدر بحوالي 1360 مليون كيلو متر مكعب , أغلبها (79.20%) على هيئة ماء مالح في البحار والمحيطات , بينما تتجمع الكمية الباقية (2.80%) على هيئة الماء العذب بأشكاله الثلاثة ـ الصلبة , والسائلة , والغازية ـ ، منها (2.15%) من مجموع ماء الأرض على هيئة تراكمات الجليد فوق المنطقتين القطبيتين من الأرض , وعلى قمم جبالها , والماء الباقي وتقدر كميته بحوالي (0.65%) من مجموع مياه الأرض يختزن أغلبه في الطبقات المسامية من صخور القشرة الأرضية على هيئة ماء تحت سطح الأرض , تليه في الكثرة النسبية مياه البحيرات العذبة , ثم الماء المختزن على هيئة رطوبة في تربة الأرض , ويليه بخار الماء في الغلاف الغازي للأرض ـ رطوبة الغلاف الغازي ـ ، ثم المياه الجارية في الأنهار , وتفرعاتها .
والماء يغطي حوالي (71%) من مساحة سطح الأرض المُقدَّرة بحوالي 510 مليون كيلو متراً مربعاً , أي : إن مساحة المسطحات المائية فوق الأرض تقدر بحوالي 361 مليون متراً مربعاً ، بينما تقدر مساحة اليابسة بحوالي 149 مليون كيلو متراً مربعاً . وعلى ذلك فإن معدل البَخْر من أسطح البحار والمحيطات يقدر بحوالي 320.000 كيلو متر مكعب من الماء في كل عام , بينما يُقدَّر معدل البخر من اليابسة بحوالي 60.000 كيلو متر مكعب , وبجمع هذين الرقمين يتضح أن دورة الماء بين الأرض وغلافها الغازي تبلغ 380.000 كيلو متر مكعب في السنة , وأغلب هذه الكمية يتبخر من المناطق الاستوائية، حيث يصل متوسط درجة الحرارة السنوي إلى 25 درجة مئوية . وعندما يتبخر الماء من أسطح كل من البحار والمحيطات واليابسة الأرضية، فإنه يرتفع بفعل قلة كثافته , وبدفع التيارات الهوائية له إلى النطاق الأسفل من الغلاف الغازي للأرض (نطاق التغيرات المناخية) ، وهو يتميز بالتبرد مع الارتفاع حتى تصل درجة حرارته إلى ناقص 80 درجة مئوية فوق خط الاستواء , وفي هذا النطاق البارد يتكثف بخار الماء الصاعد من الأرض ويعود إليها بإذن الله ـ تعالى ـ , مطرًا أو ثلجًا , أو بردًا , أو طلاً ـ على هيئة الشابورة أو الندى ـ .
والماء في عودته إلى الأرض يصرفه الله ـ تعالى ـ بحكمة بالغة، حيث ينزل على اليابسة قدراً أعلى مما يتبخر من أسطحها ـ 96.000 كيلو مترًا مكعبًا مقابل 60.000 كيلو مترًا مكعبًا مجموع المتبخر منها ـ ، بينما ينزل على البحار والمحيطات قدرًا أقل عما يتبخر من أسطحاه 284.000 كيلو متراً مكعباً في مقابل 320.000 كيلو متراً مكعباً يتبخر منها , والفارق بين هذين الرقمين هو نفس الفارق بين كميتي المطر والبخر على اليابسة , ويقدر بـ 36.000 كيلو متراً مكعباً من الماء يفيض من اليابسة إلى البحار والمحيطات في كل عام .
ودورة الماء حول الأرض دورة معجزة تشهد لله الخالق بطلاقة القدرة , وعظيم الصنعة , وإحكام الخلق , فكميتها في مجموعها ثابتة , ومحسوبة بما يكفي متطلبات الحياة على الأرض , والدورة ذاتها بين البخر والمطر تعمل على تنقية مياه الأرض التي يحيا ويموت فيها بلايين الأفراد من صور الحياة المختلفة , وهي تعمل على حفظ التوازن الحراري على سطح الأرض , وعلى التقليل من شدة حرارة الشمس في الصيف , فيعمل على تقليل الفرق بين درجتي الحرارة صيفًا وشتاءً , وذلك لصون الحياة الأرضية بمختلف أشكالها
ولما كان مجموع ما يتبخر من ماء الأرض إلى غلافها الغازي ثابتًا في كل عام ، ومجموع ما يحمل هذا الغلاف الغازي من بخار الماء ثابت كذلك على مدار السنة ، فإن مجموع ما ينزل من مطر إلى الأرض يبقى ثابتاً في كل سنة , وإن تباينت كميات سقوطه من مكان إلى آخر حسب مشيئة الله . ويبلغ متوسط سقوط المطر على سطح الأرض اليوم 85.7 سنتيمترًا مكعبًا في السنة , وتتراوح كمياته بين الصفر في المناطق الصحراوية الجافة والقاحلة و 11.45 مترًا مكعبًا في السنة في جزرهاواي .
وهذه الملاحظات الدقيقة التي لم يستطع الإنسان الوصول إليها إلا في أواخر القرن العشرين سبقتها بأربعة عشر قرنًا أو يزيد أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي قال فيها : " ما من عام بأقل مطرًا من عام " .
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ما من عام بأمطر من عام , ولكن الله يَصْرِفُهُ ـ أو يُصَرِّفه ـ " .
وهذه الحقيقة العلمية التي نطق بها خاتم الأنبياء والمرسلين لا يمكن أن يكون لها مصدر إلا وحي السماء , فصلى الله وسلم وبارك على هذا النبي الخاتم , والرسول الخاتم , وعلى آله وصحبه وسلم , وعلى كل من تبع هداه , ودعا بدعوته إلى يوم الدين .