(مناجاة)
قال سبحانه في وصف المؤمنين: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[السجدة:16].
قال الآلوسي في تفسيره: (إشارةٌ إلى سهرهم في مناجاة مَحْبُوْبِهِم، وملاحظة جلاله وجماله).
وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلْيَنْظُرْ بِمَا يُنَاجِيهِ بِهِ، وَلاَ يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ» [رواه مالك].
الكلام أصنافٌ أربعةٌ: (جهرٌ، ونجوى، وسرٌّ، وأخفى). فأمَّا الجهر: فكلامي المسموع لكم، وأمَّا النَّجوى: فحديثٌ بالهمس بيني وبين أحدكم يسمعه وأسمعه ولا تسمعون، وأمَّا السرُّ: فحديثٌ أضمَرْتَه في نفسك ولم تتحرَّك به شفتاك، وأمَّا الأخفى: فما سوف تسرُّ في المستقبل، وربُّكم يَسْمع الجهر والنَّجوى، ويعلم السِّرَّ وأخفى.
الدُّعاء على ثلاثةٍ أوجهٍ: (فطَلَبُ جَلْبٍ، وطَلَبُ دَفْعٍ، ومناجاةٌ)، وجهٌ تَطْلُب مِن الله شيئاً، ووجهٌ تطْلُبُ مِن الله دفعَ شيءٍ، ووجهٌ تَطْلُبُهُ فيه سبحانه لا لشيءٍ ولا على شيءٍ:
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى» [رواه مسلم]. تطلب مِن الله شيئاً، وهذا طَلَبُ جَلْبٍ.
«كَانَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ» [رواه البخاري]. تستعيذ بالله مِن شيءٍ، وهذا طَلَبُ دَفْعٍ.
(إلهي: إذا ذَكَرْتُ خطيئتي ضَاقَتْ عليَّ الأرض بِرَحْبِهَا، وإذا ذَكَرْتُ رحمتك ارْتدَّت إليَّ رُوحي، سبحانك إلهي: أتيت أطباء عبادك ليداووا خطيئتي فكلُّهم عَلَيكَ دَلّني) تناجي ربَّك، تَطْلُبُهُ، وهذه مناجاةٌ.
وإنَّما المراد بالحديث عن المناجاة في الخطبة، مناجاتك ربَّك عندما تخلو به وحده سبحانه، وعندما تبثُّه أشواقك وآمالك وآلامك، يسمعك ولا يسمع نجواك أحدٌ سواه. فحينا تشكو إليه نفسك الأمَّارة بالسُّوء، وحينا تشكو زمانك، مرَّةً تبثه حُبَّك وشوقك، ومرَّةً تَرْفَعُ إليه أَمَلَكَ ومصابك، تملُّقاً تارةً، وتضرُّعاً تارةً، وثناءً تارةً، وتعظيماً تارة. تحزن فتُخْبِرُه، وتألم فتُعْلِمُه، شكواك عنده، ونجواك لديه، وسكونك وسرورك معه.
ذَكَرَ الإمام الآلوسي في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ}, [يونس: 67]، قال: (فيها إشارةٌ إلى سُكُون العُشَّاق والمشتاقين في اللَّيل إذا مَدَّ أطنابه ونَشَرَ جِلْبَابه، وميلِهم إلى مناجاة محبُوْبِهِم، وانجذابهم إلى مشاهدة مَطْلُوْبِهِم، وتلذذهم بما يَرِدُ عليهم من الواردات الإلهية، واستغراقهم بأنواع التَّجليَّات الرَّبانيَّة، ومن هنا قال بعضهم: لولا اللَّيل لَمَا أحببت البقاء في الدُّنيا، وهذه حالة عُشَّاق الحضرة، وهم العُشَّاق الحقيقيُّون، نفعنا الله تعالى بهم).
وإني وجدُّت أنَّ مُعظم ما في أذكار الصَّباح والمساء عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مناجاة:
- «...رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا...» [رواه الترمذي وأبو داود].
- «...اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْكَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ، فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ...» [رواه أبو داود].
- «اللَّهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا وَبِكَ نَمُوتُ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» [رواه الترمذي وأبو داود].
جاء في حكمة آل داود: (وحقُّ على العاقل أن لا يَشْتَغِل عن أربع ساعاتٍ: ساعةٍ يُناجي ربَّه، وساعةٍ يُحاسب فيها نفسه، وساعةٍ يُفضي فيها إلى إخوانه الذين).
والحمد لله رب العالمين