بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أنفق من مالك ولا تخش من ذي العرش إقلالا:
أيها الأخوة الكرام, الخلق اليوم الإنفاق، والله سبحانه وتعالى في مطلع سورة البقرة يصف المؤمنين بأنهم: مما رزقناهم ينفقون، وهذا أوسع معاني الإنفاق، أية خصيصة خصك الله بها، ينبغي أن تنفق بها، فإن أنفقتها أقرها الله لك، وإن حبستها حولها عنك إلى غيرك.
أيها الأخوة, الإنفاق بمعنى الزكاة:
﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾
[سورة البقرة الآية: 3]
قال بعض المفسرين: يؤدون الزكاة، وبمعنى صدقة التطوع:
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾
[سورة آل عمران الآية: 134]
وبمعنى الإنفاق في سبيل الله:
﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾
[سورة البقرة الآية: 195]
في الدعوة، وفي تجهيز الجيوش، وبمعنى الإنفاق على العيال:
﴿وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ
﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾
[سورة الطلاق الآية: 7]
بمعنى الفقر والإملاق، إذاً: لأمسكتم خشية الإنفاق، هذه المعاني المستنبطة من الآيات التي وردت في الإنفاق.
لكن هناك شيء يلفت النظر هو: أن خالق الكون, جبار السموات والأرض, الذي بيده ملكوت كل شيء، يطلب منك قرضاً, قال:
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾
[سورة البقرة الآية: 245]
قال ابن القيم: إن أصل هذه الآية تشير إلى المال الذي أنفقته محفوظ عند الله، ثم يأتيك الثواب والعطاء والإكرام، لأن المال محبب إلى الناس.
فأنت إذا زكيت مالك، أو تصدقت من مالك, فهذا المال الذي أنفقته زكاة أو صدقة سوف يعود إليك، وهذا معنى القرض، الإله العظيم يقول للعبد الفقير: أقرضني يا عبدي، وأنا أعطيك أضعافاً مضاعفة.
فضل النفقة:
أيها الأخوة, الآيات التي تقترن بمعاني الإنفاق حوالي أربعين آية، ولكن الأحاديث تعطي تفصيلات دقيقة حول الإنفاق:
عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ:
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ, وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: وَبَدَأَ بِالْعِيَالِ, ثُمَّ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا: مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالٍ صِغَارٍ يُعِفُّهُمْ أَوْ يَنْفَعُهُمُ اللَّهُ بِهِ وَيُغْنِيهِمْ؟))
[أخرجه مسلم في الصحيح, والترمذي في سننه]
ابدأ بمن تعول، طبعاً فيما هو أساسي، أما الإنفاق الذي فيه ترف فالفقير أولى به، الإنفاق الأساسي هؤلاء الذين تعيش معهم، زوجتك وأولادك ليس لهم غيرك، لذلك هم أولى الناس بأن تنفق عليهم، أن تنفق عليهم نفقة تبعدهم عن أن يتطلعوا إلى غيرك.
حبذا المال أصون به عرضي، وأتقرب به إلى ربي.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
((أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ: دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ, وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))
دينار تنفقه، وديناران تنشر الحق بهما على دابتك في سبيل الله، وعلى أصحابك في سبيل الله، لكن أراد النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يبين: أن المعطي أفضل عند الله من الآخذ، أن تأخذ مال غيرك, هذا شيء لا يكلف جهداً، ولكنه يعلم كسلاً، أما أن تعمل عملاً صالحاً، أن تكدح بالمعنى القرآني، وأن تكسب مالاً بكد يمينك، وعرق جبينك، ثم تنفقه على فقير، فاليد العليا خير من اليد السفلى، اليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي اليد السائلة.
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ, عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
((إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا, كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً))
[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح, والنسائي في سننه]
بعد أن تؤمن, كل حركاتك وسكناتك أعمال صالحة، حتى إذا جئت أهلك بطعام، أو بفاكهة، أو بحلويات، أو بشيء يفرح أهل البيت، لأنك تريد أن تأخذ بيدهم إلى الله، وتريد أن تمتن علاقتك بهم، وأن تمتن علاقتهم بك، فهذا الإنفاق يشد الأهل إليك.
أقول لكم أيها الأخوة: هناك آباء بخلاء، لذلك ينسلخ عنه أبناءه، ويتطلعون على غيره، قد يصاحبون رفقاء السوء، وقد يتعلمون منهم الانحراف، من أجل أن يأكلوا معهم، أو ينفقوا عليهم، فحينما ينفق الإنسان على أهله فيكفيهم، ويبعدهم عن التطلع إلى سواه, فهذا من العمل الصالح:
((إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا, كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً))
ومن الأحاديث القدسية:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
((قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا بْنَ آدَمَ! أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ))
أنا لا أشك أنه ما من واحد منكم إلا وله مع الله بهذا الموضوع تجربة، ينفق، فإذا ربنا عز وجل يشجعه، فيأتيه الأجر أضعافاً مضاعفة، فأَنفق أُنفق عليك، هذا حديث جامع مانع.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ, وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ, وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ, وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ, أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ))
أعيد وأكرر: الإنفاق المعتدل الذي يغطي الأساسيات، أما إنفاق الترف والإسراف والتبذير، هذا لا يرضي الله عز وجل، لأن هناك بطونا جائعة، هناك أسرًا تعاني من الجوع، ومن العري، ومن الحاجات الأساسية، فأنت أنفق على أهلك ما هم بحاجة إليك، فإذا فضلت فضلة فالفقير أولى بها.
سيدنا سعد أراد أن ينفق قبل أن يموت ثلثي ماله، قال له: كثير، فقال: الثلث، قال كثير .
عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِي اللَّه عَنْه- قَالَ:
((جَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُنِي وَأَنَا بِمَكَّةَ, وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا, قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْرَاءَ, قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ, قَالَ: لَا, قُلْتُ: فَالشَّطْرُ, قَالَ: لَا, قُلْتُ: الثُّلُثُ, قَالَ: فَالثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ, إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ, وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ, حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ, وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَكَ, فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسٌ, وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ, وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا ابْنَةٌ))
إنسان يموت، ويدع لأهله شيئاً يقيهم أودهم، هذا عمل طيب، أما أن تتصدق بكل ما عندك، وأهلك جياع فقراء، أحياناً يترك بيتًا مئة متر، يوصي بثلثه للفقراء، عندك خمسة أولاد وزوجة، أين يسكنون؟ أبقِ لهم هذا البيت، احفظ لهم ماء وجههم، فهذا الذي لا يعبأ بمن بعده، كلنا سيغادر هذه الدنيا، ولكن دع لهؤلاء الأولاد شيئاً يعيشون به.
فالنبي -عليه الصلاة والسلام- لما عرض عليه سيدنا سعد أن ينفق ثلثي ماله، قال: لا كثير، قال: والثلث؟ قال: لا والثلث كثير، لذلك: العلماء بتوجيه النبي -عليه الصلاة والسلام- يفضلون ألا تزيد الوصية على الربع، ربع المال في سبيل الله, في الإنفاق على المساجد، والفقراء، والمساكين، وطلبة العلم، إلى آخره، أما يجب ألا تزيد الوصية على الربع.
قال:
((ومَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ, حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ))
أية نفقة تبتغي بها وجه الله أجرت عليها، ولو وضعت لقمة في فم امرأتك.
عَنْ أَسْمَاءَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
((أَنْفِقِي وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ, وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ))
[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح]
أنا أعبر عن هذا المعنى بكلمة أجمل، خطأ أن ترتكب هذا الخطأ في أداء الزكاة، هناك إنسان يدقق لدرجة لا يستعد أن يعطي درهمًا واحدًا زيادة عما هو مفروض عليه، فيبالغ في التدقيق، فالتوجيه هنا لا تحصي فيحصي الله عليك، مجموع الأموال كذا، لكن يوجد قسم منهم مال مجمد، هذا معفى من الزكاة، كم نسبة هذا المال إلى هذا المال؟ يدخل في متاهات الحسابات من أجل ألا يدفع درهمًا واحداً زيادة عما افترض عليه، لو كنت متسامحاً في أداء الزكاة, فهذا قد يسمى خطأ بالحسابات:
((أَنْفِقِي وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ, وَلَا تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ))
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِي اللَّه عَنْه-, أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
((مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ, فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا, وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا))
[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح]
والله عز وجل قادر أن يتلف لك كل أموالك، أحياناً ترتكب خطأ يكلف ملايين أو مئات الألوف، فأن يسترد المال منك قضية سهلة جداً, تدفعه وأنت مرتاح.
حدثني أخ أنجبت زوجة ابنه غلاماً، فمهد لهذا الحديث, قال لي: إذا رزق الله الإنسان مولودًا سليمًا معافى, كأن مع هذا المولود مليون ليرة، قلت له: كيف؟ قال: أنجبت زوجة ابني غلاماً فيه خطأ في الوريد والشريان بالقلب، فمعنا أربع وعشرون ساعة، إما أن نجري عملية ، أو يموت! ليس في كل سوريا من يجري هذه العملية، في لبنان طلب الطبيب أربعمائة ألف وثلاثمائة من المستشفى، وخمسة وعشرين ألفًا لنقله من مستشفى إلى مستشفى، فقال لي: دفعت خلال اثنتي عشرة ساعة سبعمئة وخمسة وعشرين ألفًا، الله عز وجل قادر أن يجعلك تدفع كل ما تملك، فلا تدقق كثيراً في موضوع الإنفاق، لا تحصِ فيحصي الله عليكَ.
ورد في بعض الآثار القدسية: أن الله يسأل العبد يوم القيامة: عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه؟ يقول هذا العبد: يا رب لم أنفق منه شيئاً مخافة الفقر على أولادي من بعدي، فيقول الله عز وجل: ألم تعلم بأني أنا الرزاق ذو القوة المتين؟ إن الذي خشيته على أولادك من بعدك قد أنزلته بهم، يقول لعبد آخر: عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه؟ يقول: يا رب أنفقته على كل محتاج ومسكين, بثقتي بأنك خير حافظاً, وأنت أرحم الراحمين، فقال: يا عبدي أنا الحافظ لأولادك من بعدك.
وأنا أقول لكم هذه الحقيقة: أي إنسان ينفق في حياته, الله عز وجل يحفظ له أولاده بعد مماته، وأي إنسان يمسك في حياته من أجل أولاده, الله عز وجل قد يتلف له ماله بعد مماته، هذا إن لم يفعل أولاده المعاصي والآثام.
قال: أين تذهب؟ قال: ذاهب لأسكر على روح أبي!
ترك له مالاً، ولم يترك له علماً، ترك له مالاً، ولم يعتن بدينه ولا بأخلاقه.
عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ قَالَ:
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ, كُتِبَتْ لَهُ بِسَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ))
أيها الأخوة, عَنْ جَابِرٍ قَالَ:
((أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ, فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, فَقَالَ: أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ: لَا, فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ بِثَمَانِمئَةِ دِرْهَمٍ, فَجَاءَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ, ثُمَّ قَالَ: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا, فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ, فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ, فَلِذِي قَرَابَتِكَ, فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ, فَهَكَذَا وَهَكَذَا, يَقُولُ: فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ))
يوجد أولويات؛ أن تكفي نفسك، وأهلك، وقرابتك، وبعد ذلك تنفق هكذا وهكذا، سبحانك يا رب.
الحث على الصدقة وآدابها:
عَنْ أَبِي مُوسَى, عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
((إِنَّ الْخَازِنَ الْمُسْلِمَ الْأَمِينَ الَّذِي يُنْفِذُ, وَرُبَّمَا قَالَ يُعْطِي, مَا أُمِرَ بِهِ فَيُعْطِيهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا, طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ, فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ))
ما هذا الحديث؟ أمين الصندوق إذا كان أميناً ونفذ التعليمات بدقة, فهو أحد المتصدقين.
عَنِ الرَّبَابِ, عَنْ عَمِّهَا سَلْمَانَ ابْنِ عَامِرٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
((إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ, فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ فَإِنَّهُ بَرَكَةٌ, فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَمْرًا فَالْمَاءُ, فَإِنَّهُ طَهُورٌ, وقَالَ: الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ, وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثكنتان؛ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ))
[أخرجه أبو داود والترمذي في سننهما]
إذا أنفقت على ذي قرابتك, فلك أجران؛ أجر الصدقة وأجر الصلة.
الحقيقة: ثمار الزكاة لا تقطف اليوم، لأنه يوجد إحصاء دقيق: أن الذين يدفعون زكاة أموالهم من أغنياء المسلمين لا يزيدون على خمسة بالمئة، ولو دفعت الزكاة كما أراد الله عز وجل لما وجدت فقراء، وهذا حصل في عهد سيدنا عمر بن عبد العزيز، كان الرجل يحمل زكاة ماله، ويجوب كل الأماكن رجاء أن يعثر على إنسان يقبلها فلا يجد! تنبأ النبي بهذه الثمرة اليانعة للزكاة.
يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
((تَصَدَّقُوا, فَيُوشِكُ الرَّجُلُ يَمْشِي بِصَدَقَتِهِ, فَيَقُولُ الَّذِي أُعْطِيَهَا: لَوْ جِئْتَنَا بِهَا بِالْأَمْسِ قَبِلْتُهَا, فَأَمَّا الْآنَ فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا, فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا))
[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح, والنسائي في سننه]
يوجد تعفف أيضاً، اليوم إذا أردت أن تدفع شيئًا علانية, يبدأ الأغنياء بالطلب، العفة التي كانت بأصحاب النبي شيء لا يصدق، والفقير الذي لا يجد ما ينفق طمأنه النبي.
عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ:
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ, وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ, وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ, وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ, وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ, وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ))
[أخرجه ابن حبان في صحيحه]
عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنَّمَارِيِّ, أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ:
((ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ, وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ, قَالَ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ, وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا, وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا, وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ, قَالَ: إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ؛ عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا, فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ, وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ, وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا, فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ, وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا, فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ, يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ, فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ, وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا, فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ, لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ, وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ, وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا, فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ, وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا, فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ, فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ))
كلام خطير، في اللحظة التي تشرع بسؤال الناس والتضعضع لهم، وإظهار مسكنتك أمامهم، فتحت على نفسك باب المسألة، ففتح الله عليك باب الفقر، كن عزيزاً، قم واسعَ:
بارك الله لك في مالك، ولكن دلني على السوق.
شيء خطير.
أتمنى -أيها الأخوة- أن أوضح ما في ذهني: لو ذهبنا إلى بستان مزروع تفاحًا في الزبداني، دخلنا هذا البستان، الشجرة السابعة, الغصن الثالث، التفاحة الرابعة، هذه لفلان! فلان كيف تصل إليه هذه التفاحة؟ باختياره؛ إما أن يأكلها تسولاً، أو سرقة، أو ضيافة، أو هدية، أو شراءً، طريقة وصولها إليه باختياره، أما هي فله! لذلك: ورد في الحديث:
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّهَا النَّاسُ, اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ, فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا, فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ, خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ))
[أخرجه ابن ماجه في سننه]
ما لك لَك، لن يأخذه غيرك، وما ليس لك ليس لك، لن تحصله، ولو فعلت ما فعلت.
الملاحظة: أن الإنسان على فراش الموت يصير سخيًا، المال لم يعد له معنى بالنسبة له، أعطوا فلانًا، أعطوا فلانًا ...
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِي اللَّه عَنْه- قَالَ:
((جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ, تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى وَلَا تُمْهِلُ, حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ, قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ))
البطولة: وأنت شاب، وأنت في أمس الحاجة إلى المال، وأنت في وقت المال يفعل معك كل شيء، في هذا الوقت الحرج تنفق من مالك، أن تصدق وأنت صحيح شحيح.
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ:
((سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَتِرَ مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ))
[أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح]
نصف تمرة استتر بها من النار.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
((يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي مَالِي, إِنَّمَا لَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثٌ؛ مَا أَكَلَ فَأَفْنَى, أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى, أَوْ أَعْطَى فَاقْتَنَى, وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ))
من لم يحمل هم المسلمين ليس منهم:
أيها الأخوة الكرام, يبدو أن هذا الموضوع كبير جداً في الدين, بدليل: أن النبي الكريم أعطى كَماً كبيراً جداً في الإنفاق، لأن علة مجيئك إلى الدنيا أن تعمل عملاً صالحاً يكون سبب دخولك الجنة، والدليل: أن الإنسان إذا وافته المنية يقول:
﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً﴾
[سورة المؤمنون الآية: 99-100]
وأن الفقر الحقيقي هو فقر العمل الصالح، وأن الغنى الحقيقي هو غنى العمل الصالح ، وأن حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، وأعظم أعمالك الصالحة ما استمر بعد الموت!.
كنا في بيروت قبل أيام, يوجد مؤسسة بحي الأوزاعي ضخمة جداً، أوقفها طبيب محسن في سبيل الله، مستشفيات، مستوصفات، دور أيتام، إطعام فقراء، مات من عشر سنوات أو أكثر هذا الطبيب، لكن هذا العمل مستمر، ندعى كل عام مرتين لإلقاء محاضرات في العجزة والمعاقين، طبعاً تنقل على الإذاعة، لكن أنا أقول: يا رب, هذا الإنسان تحت أطباق الثرى، أما الخير مستمر ويتنامى، والله عز وجل سخر أيدي أمينة لهذه المؤسسة، هذا عمل، يجب أن تكون بطلاً، لا أن تكون رقماً.
أحياناً يكون الإنسان رقمًا، لا يقدم ولا يؤخر، همه أن ينام ويأكل ويشرب فقط، هذا لا يقيم الله له يوم القيامة وزناً، همه نفسه، وكلما اتسعت الهموم ترقى عند الله، إذا كان همك فقط فأنت صغير في عين الله.
يوجد آباء لا يعتنون بأولادهم إطلاقاً، ولا يعنى بزواجهم، ولا استقرارهم، ولا عملهم، افعل ما تشاء، كن عصامياً، لا، هناك من يهتم بأولاده، وبقرابته، وبأبناء بلدته، ومن يهتم بالمسلمين ، كلما اتسعت دائرة اهتمامك كبرت عند الله، وكلما ضاقت دائرة اهتمامك صغرت من عين الله, ما الذي يعنيك؟ من لم يحمل هم المسلمين ليس من المسلمين.
أنا إذا قال لي واحد: أنا الحمد لله، أنا ما عندي مشكلة، يصغر من عيني، رغم كل ما يجري في العالم الإسلامي ليس عندك مشكلة!؟ أنت مرتاح أن يقتل المسلمون، أن يشردوا، وتنهب أموالهم، أنت مرتاح!؟ يعني هذا أنك أنت المشكلة, إذا لم يوجد عندك مشكلة، مثل هذا الإنسان الذي لا يهتم للآخرين هو نفسه مشكلة، أين حرصك على المسلمين؟ أين انتماؤك لهم؟ أين حرصك على سعادتهم؟.
على كل؛ المسلم الصادق يحمل هم المسلمين، ويخفف عنهم قدر ما يستطيع؛ إما بإنفاق المال، أو بتقديم خدمات، أو بتوعية، يقدم شيئًا يكون له يوم القيامة شفيعاً.
والحمد لله رب العالمين