eliasissaoui Admin
عدد المساهمات : 16999 تاريخ التسجيل : 04/07/2013 الموقع : https://www.youtube.com/watch?v=QriWAmC6_40
| موضوع: الإسلام وهموم الناس الأحد يوليو 14, 2013 11:31 am | |
| المبحث الأول : عمل الصحابة رضوان الله عليهم المبحث الثاني : عمل التابعـين (رحمهم الله) المبحث الثالث : سيرة السلف الصالح رحمهم الله المبحـث الرابـع : سيرة أهــل الدعــوة والجــهاد
لقد انفعلت نفوس الدعاة والمجاهدين، والمؤمنين الصادقين، على مر حِقَبِ تاريخ المسلمين، بالمعاني، التي مرت معنا، في الفصليْن السابقيْن، فأوقفهم ذلك مواقف رآها الله، ورآها المؤمنون، وحفظها لهم التاريخ، فكانت لهم لسان صِدْق في الآخِرين، مما يدل دَِلالة واضحة وكافية، على كون الحياة، لم تزل نابضة في عُروق الأمة، رغم استسلامها للنوم، على امتداد قرون متطاولة، غير أن نومها، لم يمنع -بفضل الله- من انبعاثِ ونَفْرَةِ طوائف من خِيرة أبنائها، للذَّبِّ عنها، والعمل على إيقاظها، مما يوقفنا بجِلاء، على سنة الله، في حفظ هذه الأمة.. فحتى حين تتعطل أجهزة التربية، وتنفلت آلياتها، تبقى الأمة وَلُودًا.. فعن أبي عَلْقَمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبعثُ لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يُجَدِّد لها دينها )(1).
نعم حتى حين تَعَطُّل هذه الأجهزة، وانفلات هاتيك الآليات، تبقى ساحة تاريخ الأمة تشهد انتفاضات الخُلَّص من أبنائها، يدعون، إلى نَفْضِ غُبار النوم عن الأجفان، والأَوْبَةِ إلى الله، بعد إباقٍ قد طال.. وعلى الرغم، من أن الاستجابة لهم، لا تكون عامة، بل يواجَهُون بالرفض وبالعداء أحيانًا(2)، فإن الأمة في أعماقها، لم تزل مُحبة لأبنائها، الذي يضحُّون من أجلها، حافظة لهم، أعلى وأوغل المكانات، في عقلها ووجدانها الجمعيين، وإن تطاولَ الزمانُ.. بذلك يشهد التاريخ ، والواقع.
وفي الصفحات الآتية، سوف نستعرض -إن شاء الله- بعض الأمثلة، التي تشهد بشموخٍ، على عِزة الأمة الإسلامية، وعِزة أبنائها، وهي أمثلة، قد أُخِذت من بين آلاف الأمثلة الأخرى -ولست أبالغ- غير أننا انضبطنا لضابط، أن تكون أمثلتنا من سير مسلمين، مشهود لهم بالإمامة في الدين، معروفين غير أخفياء -وإلا فما أكثر جند الله الأخفياء- وإخال أنه ضابط وكيل، بأن يقطع دابر كل ريبة، بصحة فَهْمِ أئمتنا، الذين أوجبوا التبني، لهموم المسلمين، وجعلوا عدمه كفرًا، وتكذيبًا بالدين، استنباطًا من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.. كما إخالُ أيضًا، أنه ضابط كفيل، بأن يذيب جليد العجز، والتواكل، والانتظارية، الذي جَمَّدأوصال عموم أمتنا ، طيلة العهود السالفة، من جَرَّاء قلة الفَهْم، لكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من جهة، وتعطُّل الأجهزة والآليات التربوية، من جهة ثانية.. فههنا تطبيق تَعَبُّدي، للمعاني التي مرَّت معنا في الفصول السابقة.
المبحث الأول : عمل الصحابة رضوان الله عليهم
عملُ الصحابةِ، مصدر معتبر من مصادر التشريع، وهو المصدر الثالث من مصادر فهم كتاب الله، بعد كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهم رضوان الله عليهم، سليلو عهد البعثة، وهو عهد فيه حس الإدراك لكمال الشرع، ولمقاصده على وجه الصواب، مرتفع، لأنه عهد البنيان في حالة جدته، وكماله البشري الممكن، وهذا سبب رئيس، في كون سكوت عموم الصحابة، عن ممارسة معينة، حجة كافية على شرعيتها(3)، فكيف إن نُصَّ على هذه الممارسة في الكتاب والسنة، وحَضَّ عليها الصحابة، وعملوا بمقتضاها، وأجمعوا عليها، وذُكِر ذلك من فضائلهم في مدونات الحديث والسير، التي تحدثت عن فضائل الصحابة ?
وفي ما يأتي، جوانب من تراجم بعضهم -رضي الله عنهم أجمعين- تنقل لنا مدى امتثالهم، لأوامر الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، الحاضَّة على تبنِّي هُموم الناس:
1 - عبد الله بن رَوَاحة رضي الله عنه:
( هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت )
ينادي به رضي الله عنه، بعد مقتل جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، في غزوة مُؤْتة، ليخلفه في حمل اللواء (وهو في جانب العسكر، ينهش ضلع جمل، ولم يكن ذاق طعامًا قبل ذلك بثلاث، فرمى بالضلع، ثم قال: وأنت مع الدنيا ، ثم تقدم فأصيبت إصبعه، فارتجز فجعل يقول:
هَلْ أَنت إلا إصْبَعٌ دَمِيت وفي سبيلِ الله ما لَقِيـــــتِ
يا نَفْسُ إلاَّ تُقْتَلِي تموتي هذا حِياضُ الموتِ قد صَلِيتِ
وَمَا تَمَنِّيتِ فَقَــدْ لَقِيتِ إنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيـــتِ
وإنْ تَأخَّرْتِ فقد شَقِيتِ
ثم قال: يا نفس إلى أي شيء تتوقين ? إلى فلانة -لزوجته- ? فهي طالق ثلاثًا..وإلى فلان، وإلى فلان -لغلمان له- ? وإلى معجف -اسم حائط له- ? فهو لله ورسوله.
يَا نَفْسُ مَالَكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّه أُقْسمُ بِالله لَتَنْــزِلِنَّــــــــهْ
طَائعـــة أو لَتُــكْرَهنَّه فَطَالَ ما قد كنــــتِ مُطْمَــئِنَّهْ
هل أنتِ إلا نُطفةٌ في شَنَّه قـــد أَجْلَبَ الناسُ وشَدُّوا الرنَّه
فما زال رحمه الله حتى قُتل، وكان ذلك في سنة 8 للهجرة(4)، ولم يكن رضي الله عنه جنديًا نظاميًا -تمامًا كسائر أصحابه- وإنما قاتل في سبيل الله، من أجل نُصرة دينه، وإبلاغ هُداه للناس، بتحطيم الحواجز التي تحجزهم عنه، وتمنعهم إياه.. ففي سبيل الله، ونُصرةً للمستضعفين، قد استشهد رضي الله عنه.
2- أبو بكر الصديق رضي الله عنه(*)
( أبقيتُ لهم الله وَرَسُولَه) ..
عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: (كان أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه، معروفًا بالتجارة، ولقد بُعث النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وعنده أربعون ألف درهم، فكان يعتق منها، ويقوي المسلمين، حتى قدم المدينة، بخمسة آلاف درهم، ثم كان يفعل فيها، ما كان يفعل بمكة ).
وعن عُمَر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: (أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، ووافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبقُ أبا بكر، إن سبقته يومًا.. قال: فجئتُ بنصف مالي. قال: فقال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (ماذا أبقيتَ لأهلك ) قلتُ: مِثْلَه . وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما أبقيتَ لأهلك ) فقال: أبقيتُ لهم الله ورسوله.. فقلتُ: لا أسابقك إلى شيء أبدًا.
وكما أن أبا بكر رضي الله عنه -مُعْتِق بلال- لم يكن يبخل بماله في سبيل الله، وعونِ المستضعفين، فلم يكن يبخل بنفسه كذلك، فقد (ذكر أهل العلم بالتواريخ والسِّيَر: أن أبا بكر، شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدًرا، وجميع المشاهد، ولم يَفُتْه منها مشهد، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد، حين انهزم الناس، ودفع إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، رايتَه العظمى يوم تَبُوك ).
توفي رضي الله عنه سنة 13 للهجرة (5).
3- عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
( لو مـــاتَ جَــــدْيٌ بطَــفِّ الفُـــرات، لخشـــيتُ أن يُحــاسِــبَ الله به عُمَر كان رضي الله عنه، زمان الرَّمادة، (إذا أمسى، أُتِيَ بِخُبْزٍ، قد ثُرِدَ في الزيت، إلى أن نَحَروا يومًا من الأيام جَزُورًا، فأُطعِمَها الناس، وغَرَفوا له طَيِّبَها، فأُتِيَ به، فإذا قِدْر من سنام، ومِن كَبِد، فقال: أنَّى هذا ? قالوا: يا أمير المؤمنين، مِن الجَزُور التي نَحرنا اليوم، قال: بَخٍ، بخٍ، بئس الوالي أنا، إنْ أَكَلْتُ أطيبَها، وأَطْعَمْتُ الناسَ كَرَادِيسَها -عِظَامها-، ارفع هذه الجَفْنَة، هاتِ لنا غيرَ هذا الطعام.. فأُتِي بخبزٍ وزيت، فجعل يكسر بيده، ويَثْرُدُ ذلك الخبز، ثم قال: ويحك يا (يرفأ)! ارفع هذه الجَفْنَة، حتى تأتيَ بها، أهلَ بيتِ (بثمغ)، فإني لم آتهم منذ ثلاثة أيام، وأحسبهم مقفرين، فضعها بين أيديهم... )(6).
وقد خرج رضي الله عنه مرة، (في سواد الليل، فرآه طلحةُ، فذهب عمرُ، ودخل بيتًا، ثم دخل بيتًا آخر، فلما أصبح طلحة، ذهب إلى البيت ذلك، فإذا بعجوز، عمياء مُقْعَدة، فقال: ما بالُ هذا الرجل يأتيك ? قالت: إنه يتعاهدني، منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى، قال طلحة: ثَكِلَتْك أُمُّك طلحة! أعَثَراتِ عُمر تتبع (7).
وكان رضي الله عنه يقول: (لو مات جَدْيٌ بِطَفِّ -بشَطِّ- الفرات، لخشيتُ أن يُحاسِبَ الله به عُمَر )(ثمانية).
وقد شهد رضي الله عنه، بدرًا وأُحُدًا، والمشاهد كلها، واستشهد(9) سنة 23 للهجرة.
4 - عثمان بن عفان رضي الله عنه:
( ما ضرَّ عثمانَ ما عمل بعد اليوم).(10)
لنستمع إلى الصاحب الشهيد، رضي الله عنه، وهو يخاطب محاصريه يوم الدار، لعلهم ينثنون عن عزمتهم الظالمة، فعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أشرف عثمانُ من القَصْر وهو محصور، فقال: أنشُدُ بالله، من شَهِدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قـــال يوم حِراء: (ليـس عليه إلا نبــي ، أو صديق، أو شهيد )، وأنا معه. فانتشد له رجال.
قال: أنشد بالله، من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم بيعة الرِّضوان، إذ بعثني إلى المشركين من أهل مكة، قال: (هذه يدي، وهذه يد عثمان )، فبايع. فانتشد له رجال.
قال: أنشد بالله، من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (من يُوَسِّع لنا بهذا البيت في المسجد، ببيت له في الجنة )، فابتعته من مالي، فوسَّعْتُ به المسجد. فانتشد له رجال.
قال: وأنشد بالله، من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم جيش العُسْرة، قال: (من يُنْفِق اليوم نفقة مُتَقَبَّلة )(11)، فجهزت نصف الجيش من مالي. قال: فانتشد له رجال.
قال: وأنشد بالله ،من شهد رُومَة، يُباع ماؤها ابنَ السبيل، فابتعتها من مالي، فأبحتها ابن السبيل. فانتشد له رجال .
وأخرج الترمذي، في مناقب عثمان، عن عبد الرحمن، بن خباب السُّلَمِي، قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فحثَّ على جيش العُسْرة، فقال عثمان: عليَّ مائة بعير، بأَحْلاسِها، وأَقْتَابِها.. ثم حثَّ، فقال عُثمان: عليَّ مائة أخرى، بأحلاسها، وأقتابها، قال: ثم نزل مَِرْقَاة من المِنْبَر، ثم حَثَّ، فقال عثمان: عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقول بيده هكذا: (ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم )(12).
5 - علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
( يا دنيا، يا دنيا! أَبِيَ تَعَرَّضْتِ ؟ أم لِي تَشَوَّفْتِ ؟ هيهاتَ هيهاتَ، غرِي غَيري، قد بَتَتُّكِ ثلاثًا، لا رَجْعَة لي فيك )(13).
يجيئه أمينُه، ومُؤَذِنُه، ابن النباح يومًا، فيقول: (يا أمير المؤمنين! امتلأ بيتُ المال، من صَفْرَاء وبيضاء.. فقال: الله أكبر! ثم قام متوكئًا على ابن النباح، حتى قام على بيت المال، فقال:
هذا جناي وخياره فيه وكل جان يده إلى فيه
يا ابن النباح! عليَّ بأشياخ الكوفة، قال: فنُودي في الناس، فأَعْطى جميعَ ما في بيت المال، وهو يقول: يا صفراء! يا بيضاء! غري غيري، ها، ها.. حتى ما بقي فيه دينار، ولا درهم، ثم أمر بنضحه، وصلَّى فيه ركعتين )(14).
وعن الحُرِّ بن جُرمُوز، عن أبيه قال: (رأيتُ عليًا، وهو يخرج، وعليه قِطْرِيَّتَان، وإزار إلى نصف الساق، ورداء مُشَمَّر، قريب منه، ومعه دِرَّة، يمشي بها في الأسواق، ويأمرهم بتقوى الله، وحُسن البيع، ويقول: أوفوا الكيل والميزان، ويقول: لا تَنْفُخوا اللحم )(15).
وقد شهد رضي الله عنه، المشاهد كُلَّها ،مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتخلف، إلا في تبوك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَلَّفَه)(16).
استشهد رضي الله عنه، سنة 40هـ.
6 - الحسن بن علي رضي الله عنهما:
( ابني هذا سيد، ولعلَّ الله يُصْلِحُ بِه بين فِئَتَيْنِ من المسلمين )(17) .
يخرج رضي الله عنه، من ماله مرتين، ويقاسم الله عز وجل مالَه، ثلاث مِرارٍ، حتى إن كان ليُعطي نعلاً ، ويُمسك نعلاً (18).
مات رضي الله عنه، سنة 50 هـ.
7 - الحسين بن علي رضي الله عنهما:
ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج رضي الله عنه، في زمن يزيد بن معاوية، ليعيد الأمر، إلى نصابه، والإسلام إلى صفائه، فيقتل في سبيل الله، والمستضعفين، بكربلاء، يوم الجمعة - وقد كان يوم عاشوراء- من شهر محرم سنة 61هـ.(19)
8 - أبو سعيد الخدري (سعد بن مـــالك بن ســـنان)، رضي الله عنه:
( لم يكن أحد، من أحداث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعلم من أبي سعيد الخُدْري )، (حنظلة بن أبي سفيان)( 20)
قال ابن حَجَر، في (الإصابة في معرفة أسماء الصحابة ): (روى ابن الهيثم، بن كليب، في مسنده، من طريق عبد المهيمن، بن عباس، بن سهل، بن سعد، عن أبيه، عن جده، قال: (بايعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، أنا، وأبو ذر، وعُبادة بن الصامت، ومحمد بن مسلمة، وأبو سعيد الخُدْري، وسادس، على أن لا تأخذنا في الله لومةُ لائم، فاستقال السادس فأقاله )(21).
وسمع مرَّةً، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال فيه: (لا يمنعنَّ أحدَكُم مخـــافةُ الناس أن يتـــكلَّم بالحــق، إذا رآه، أو علــــمه )، قال أبو سعيد: (فحملني ذلك، على أن ركبت إلى معاوية، فملأتُ أُذنيه، ثم رجعت ُ)(22)
مات رضي الله عنه، سنة 63هـ.
المبحث الثاني : عمل التابعـين (رحمهم الله)
ومن التابعين ، الذين تدل أعمالهم على امتثالهم للتوجيهات القرآنية والنبوية، التي تحض على تبني هموم الناس ، نذكر :
1- أبو مسلم الخولاني (عبد الله بن ثوب) رحمه الله :
قال عنه الداراني: (سيد التابعين، وزاهد العصر )(23).
يقوم رحمه الله، لمعاوية بن أبي سفيان، في المسجد، وكان، قد منع العطاء عن الناس، ليتكلم عنهم، متبنيًا بذلك همومهم، ومدافعًا عنهم، بكل شجاعة، وثبات، فيقول له: (يا معاوية، إنه ليس من كَدِّك، ولا كَدِّ أبيك، ولا كَدِّ أُمِّك )، حتى يغضب معاوية، وينزل عن المنبر، ثم يعود، رضي الله عنه، بعد أن اغتسل، ليضرب أروع أمثلة قبول النصيحة، مهما كانت مُرَّة، فيقول: (إن أبا مسلم، كلَّمَني بكلام أغضبني، وإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الغضبُ من الشيطان، والشيطان خُلِق من النار، وإنما تُطْفَأُ النار بالماء، فإذا غضب أحدُكُم فليغتسل )، وإنما دخلتُ فاغتسلتُ، وصدق أبو مسلم: إنه ليس من كَدِّي، ولا كَدِّ أبي، فهَلُمُّوا إلى عطائكم )(24).
ويدخل مَرة على (معاوية، فيقوم بين السِّمَاطَيْن ، فيقول: السلام عليك، أيها الأجير) فقالوا: مَهْ! قال: دَعُوه، فهو أعرف، بما يقول.. وعليك السلام، يا أبا مسلم.. ثم وَعَظه، وحَثَّه على العَدْل) (25).
تُوفي -رحمه الله- في زمن يزيد، بن معاوية، بن أبي سفيان.
2- سعيد بن جُبَيْر، رحمه الله:
قال للحجاج: (ترى من نفسك أمورًا، تريدُ بها الهَيْبَة، وهي التي تُقْحِمك في الهلاك، وسَتُرَدُّ غَدًا فَتَعْلَم ).
قال عنه إبراهيم النَّخَعِي(26)، حين علم بوفاته: ( يرحمه الله، ما خلَّفَ مثله )(27).
وقال عنه ميمون بن مهران(28): (لقد مات سعيد بن جُبير، وما على الأرض، من رجلٍ، إلا يحتاج لسعيد )(29).
يخرج رضي الله عنه، على أهل الجَوْر، ويقف في الناس، يوم دير الجماجم، وهم يقاتلون، وهو يقول لهم: (قاتلوهم على جَوْرهم في الحكم، وخروجهم من الدين، وتَجَبُّرِهم على عباد الله، وإماتتهم الصلاة، واستذلالهم المسلمين )(30).
وحين لَقِي الحجاج، بعد أن اعتقله جندُهُ، قال له الحجاج: (... فما تقول فيَّ ? قال: أنتَ أعلم بنفسك. قال: بُثَّ بعلمك. قال: إذن نسوءك، ولا نَسُرُّك. قال: بُثَّ بعلمك. قال: أعفني. قال: لا عفا الله عنِّي، إن أعفيتُك. قال: إني لأعلم أنك مخالِفٌ لكتاب الله، ترى من نفسك أمورًا ، تُريد بها الهيبة، وهي التي تُقحمك في الهلاك... وستُرَدُّ غدًا فتعـــلم. قــــال: أما والله، لأقتُلَـــنَّك قِتْلَةً، لم أقــتُلْهَا أحـــدًا قبلك، ولا أقتُلُها أحدًا بعدَك )(31) فقتله...
وقد استشهد -رحمه الله- سنة أربع وتسعين للهجرة (94هـ).
3- مالك بن دينار رحمه الله:
( كفى بالمرء خيانةً، أن يكون أمينًا للخَوَنة ).
كان رحمهُ الله، من أعبد أهل عصره، يجيئة مَرة رجلٌ، قد حَبَسَ العَشَّارُ -قابض العُشْر- سفينته، فيذكر له ذلك، فقام مالك، فمَشى إلى العَشَّار، فلما رأوه، قالوا: يا أبا يحيى! ألا تبعث لنا حاجتك ?! قال: حاجتي، أن تخلوا سفينة هذا الرجل، قالوا: قد فعلنا، قال: وكان عندهم كُوزٌ، يجعلون فيه، ما يأخذونه من الناس، من الدراهم، فقالوا: ادع لنا يا أبا يحيى.. قال: قولوا للكُوز، يدعو لكم، كيف أدعو لكم، وأَلْفٌ يدعون عليكم ? أترى يُستجاب لواحد، ولا يُستجاب لأَلْف ؟ .(32).
وكان رحمه الله يقول: (كَفى بالمرء خِيانة، أن يكون أمينًا للخَوَنة )(33).
مات -رحمه الله- سنة 130هـ.
المبحث الثالث : سيرة السلف الصالح رحمهم الله
ومن السلف الصالح ، الذين جاءت أفعالهم وسيرتهم ، امتثالاً للتوجيهات القرآنية والنبوية ، بخصوص تبني هموم الناس :
1- عبد الرحمن الأوزاعي فقيه الشام، الإمام الرُكن:
قال لأبي جعفر المنصور: أنت راعي الله، والله تعالى فوقك، ومستوفٍ منك، يوم تُوضع {الموازين القِسْط ليوم القيامة فلا تُظلم نفس شيئًا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين } (الأنبياء:47).
قال عنه الإمام مالك، بن أنس الأصبحي(34): (الأوزاعي إمام يُقْتدى )(35).. كانت له مواقف مشهورة ، مع ملوك بني العباس، الأصلب قناة، والأصعب مراسًا، عبد الله بن علي، وأبي جعفر المنصور.
يسأله الإمام الثوري، عن موقفه مع الأول قائلاً: (حَدِّثْنا يا أبا عَمرو، حديثك مع عبد الله بن علي... قال: نعم، لما قدم الشام، وقتل بني أمية، جلس يومًا على سريره، وعبأ أصحابه أربعة أصناف، صنف معهم السيوف المسللة، وصنف معهم الجزرة، أظنها الأطبار (نوع من الفؤوس)، وصنف معهم الأعمدة، وصنف معهم الكافر كوب (مقارع)، ثم بعث إليَّ، فلما صرتُ بالباب، أنزلوني، وأخذ اثنان بِعَضُدَيَّ، وأدخلوني بين الصفوف، حتى أقاموني مُقامًا، يسمع منه كلامي، فسلَّمتُ، فقال: أنت عبد الرحمن، بن عمرو الأوزاعي ? قلتُ: نعم، أصلح الله الأمير.. قال: ما تقول في دماء بني أمية ? فسأل مسألة رجل، يريد أن يقتل رجلاً.. فقلتُ: قد كان بينك وبينهم عهود.. فقال: ويحك! اجعلني وإياهم، لا عهد لنا.. فأجهشت نفسي، وكَرهت القتل، فذكرتُ مقامي، بين يدي الله، عز وجل، فلفظتها، فقلتُ: دماؤهم عليك حرام.. فغضب، وانتفخت عيناه، وأَوْدَاجُه.. فقال لي: ويحك! وَلِمَ ? قلتُ: قال رســـول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يَحِــلُّ دم امــرئٍ مسـلمٍ إلا بإحدى ثلاث: ثيب زان، ونفس بنفس، وتارك لدينه )(36)، قال: ويحك! أو ليس لنا ديانة ? قلتُ: وكيف ذلك ? قال: أليس، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوصى إلى عليَّ ? قلتُ: لو أوصى إليه، ما حَكَّم الحَكَمَيْن.. فسكت، وقد اجتمع غضبًا، فجعلتُ، أتوقع رأسي، تقع بين يدي، فقال بيده هكذا -أومأ أن أخرجوه- فخرجتُ... (37).
قال الذهبي معلقًا على هذا الخبر: (قلتُ: قد كان عبد الله، بن علي، ملكًا جبارًا، سفاكًا للدماء، صعب المراس، ومع هذا فالإمام الأوزاعي، يصدعه بمر الحق، كما ترى، لا كخلق من علماء السوء، الذين يُحَسِِّّنون للأمراء، ما يقتحمون به، من الظلم، والعسف، ويَقْلِبون لهم الباطل حقًا -قاتلهم الله- أو يسكتون، مع القدرة على بيان الحق )(38).
وأما عن موقفه، مع أبي جعفر المنصور، في تبنِّي هموم المسلمين، والدفاع عن حقوقهم، وتذكير السلطان بواجباته، تجاه رعيته، التي استرعاه الله إياها، دونما خوف في الله لومة لائم، فحدثنا أبو نعيم الأصفهاني، في حِلْيته، يقول بعد ذكر سنده إلى هذا الخبر: (لما خرج إبراهيم ،ومحمد، على' أبي جعفر المنصور، أراد أَهْلَ الثُّغُور، أن يعينوه عليهما، فأبوا ذلك، فوقع في يد ملك الروم، الألوف من المسلمين الأسرى، وكان ملك الروم، يحب أن يُفَادِي بهم، ويأبى أبو جعفر.. فكتب الأوزاعي، إلى أبي جعفر، كتابًا أن:
( أما بعد، فإن الله تعالى، استرعاك أمر هذه الأمة، لتكون فيها بالقسط قائمًا، وبنبيه صلى الله عليه وسلم في خفض الجناح، والرحمة، متشبهًا، فإن سائحة المشركين، غلبت عام أول، وقد عملت موطئهم حريم المسلمين، واستنزالهم العواتق، والذراري، من الحصون، وكان ذلك بذنوب العباد، وما عفا الله عنه أكثر.. فبذنوب العباد، استنزلت العواتق، والذراري، من المعاقل والحصون، لا يلقون لهم ناصرًا، ولا عنهم مدافعًا، كاشفات رؤوسهن، وأقدامهن، فكان ذلك، بمرأى، ومسمع، وحيث ينظر الله إلى خلقه، وإعراضهم عنه، فليتق الله أمير المؤمنين، وليتبع بالمفاداة بهم، من الله ســـبيلاً... فإن الله تعـــالى، قال لنبــيه: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان } (النســـــاء: 75) .. والله يا أمــــير المؤمــــنين! ما لهم يومئذ من موقوف ولا ذمة، تؤدي خــراجًا، إلا خاصة أموالهم، وقد بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لأسمعُ بُكاء الصبي خلفي في الصلاة، فأتَجَوَّز فيها، مخافة أن تُفْتَن أمُّهُ )، فكيف بتخليتهم، يا أمير المؤمنين، في أيدي العدو، يمتهنونهم، ويتكشفون منهم، ما لا نســتحله نحن، إلا بنــكاح ? وأنت راعي الله، والله تعالى فوقك، ومستوفٍ منك، يوم تُوضع: {الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئًا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاســـــــــــــــــبين }(الأنبياء:47). قال أبو نعيم بسنده، إلى أبي سعيد الثعلبي: (فلما وصل إليه كتابه، أمر بالفداء )(39).
توفي الأوزاعي رحمه الله، سنة 151هـ.
2- الإمام مالك بن أنس الأصبحي، رحمه الله:
قال لهارون الرشيد: (كان عُمَر، ينفخ لهم النار، عام الرَّمادة، وقد رضي الناس منهم، دون هذا ).
قال القاضي عياض، في : (ترتيب المدارك وتقريب المسالك): (قال عتيق بن يعقوب: كان مالك، إذا دخل على الوالي وعظه، وحثه على مصالح المسلمين، ولقد دخل يومًا، على هارون الرشيد، فحثه على مصالح المسلمين، فقال له: (لقد بلغني، أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان في فضله وقدمه، ينفخ لهم عام الرمادة النار، تحت القدور، حتى يخرج الدخان من لحيته، وقد رضي الناس منكم، دون هذا... )(40).
توفي رضي الله عنه سنة 179هـ.
3- الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ، رحمه الله:
( القرآن كلام الله ، غير مخلوق).
ذرت فتنة الاعتزال، في الأمة بقرنها، مدعومة بسلاطين بني العباس: المأمون، وخلفائه... وينفخ في جمرها، أئمة الاعتزال، فامتحن العلماء، وأذعن أكثرهم، وعَمَّى بعضهم تَقِيَّةً، وقُتل بعضهم، وصَمَد الإمام أحمد، صمودًا، كانت الأمة لولاه، ستنحرف انحرافًا قَصِيًّا، عن جَادَّة دينها، اعتقادًا وعملاً، وقد كان يسع الإمام أحمد -كما وسع غيره- أن يُعَمِّي تقية، ولكنها القدوة والأمانة... وقد كان، رضي الله عنه، يحمل في قلبه هَمَّ الأمة كلها، وهَمَّ هداية أفرادها جميعًا .. (فعن أبي عيسى عبد الرحمن بن زادان، قال: صلينا، وأبو عبد الله، أحمد ابن حنبل، حاضر، فسمعته يقول: (اللهم من كان على هوى، أو على رأي، وهو يظن، أنه على الحق، وليس هو على الحق، فرُدّه إلى الحقِّ، حتى لا يُضل من هذه الأمة أحد... )(41).
وقد لقي -رحمه الله- في سبيل الله، وأمته، بلاءً شديدًا.. (فعن ميمون بن الأصبع، قال: كنت ببغداد، فسمعتُ ضجة، فقلت: ما هذا ? فقالوا: أحمد بن حنبل يُمْتَحن.. فدخلتُ، فلما ضُرِبَ سوطًا، قال: بسم الله.. فلما ضُرب الثاني، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله.. فلما ضُرب الثالث، قال: القرآن كلام الله، غير مخلوق.. فلما ضُرب الرابع، قال: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا}.. فضُرب تسعة وعشرين سوطًا )(42).
وعن محمد بن أبي سُمَيَّة، قال: (سمعتُ شاباص النائب، يقول: لقد ضربتُ أحمد بن حنبل، ثمانين سوطًا، لو ضربتها فيلاً لهدته )(43).
وعن عبد الله، بن أحمد بن حنبل، قال: قال لي أبي: (يا بُني، لقد أعطيتُ المجهود من نفسي )(44).
هذا، وإن لِقَولِ الحق، مقتضيات، من صحة، وصفاء في العقيدة، وسعة في العلم، وقوة في الإيمان، وزهد في الدنيا، يؤدي إلى القناعة، وعدم مد العين، إلى ما متَّع الله به أزواجًا منهم، زهرة الحياة الدنيا... وقد وقفنا عند الإمام، على الثلاثة الأولى، وعن الرابعة يحدثنا ابنه صالح فيقول: (ربما رأيتُ أبي، يأخذ الكَسْرَ، من الخبز اليابس، فينفض الغبارَ عنها، ثم يصيرها في قَصْعَة، ثم يصب عليها ماءً، حتى تبتل، ثم يأكلها بالملح... )(45).
ويحدثنا عنها أيضًا، النيسابوري، صاحب إسحاق بن إبراهيم، فيقول: (قال لي الأمير: إذا جاءه إفطار أرنيه، قال: فجاؤوا برغيفي خبز وخيارة، فأريته الأمير، فقال: هذا لا يجيبنا، إذا كان هذا يقنعه )(46).
وما كان الإمام أحمد، رحمه الله، في هذا مبتدعًا، وإنما كان متأسيًا، فعن المِقْدَام بن مَعْد يكرب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطن، حَسْب ابن آدم أكلات يُقِمْنَ صلبَه، فإن كان لا محالة، فثُلُث لطعامه، وثُلُث لشرابه، وثُلُث لنفسه )(47).
وعن عِمران، بن زيد المدني، عن أبيه، قال: (دخلنا على عائشة، رضي الله عنها، فقلنا: السلام عليك يا أُمَّه! فقالت: وعليكَ السلام ? ثم بكت، فقلنا : ما بكاؤك يا أُمَّه ? قالت: بلغني، أن الرجل منكم، يأكل من ألوان الطعام، حتى يلتمس لذلك دواء يمرئه، فذكرتُ نبيكم صلى الله عليه وسلم، فذاك الذي أبكاني، خرج من الدنيا، ولم يملأ بطنه، في يومٍ من طعامين، كان إذا شَبِع من التمر، لم يشبع من الخبز، وإذا شَبِع من الخبز، لم يشبع من التمر، فذلك الذي أبكاني )(48)، وإن الوهن كل الوهن، إنما ينجم من الانشغال بما الله يكفيه.. وإنه من تفضيل طعام على طعام، ووجه على وجه، وثوب على ثوب، ومسكن على مسكن، تنجم الفتنة.. وقد أُثر عن بعضهم أنه قال: (لولا ثلاثة، ما وقع حَيْفٌ، ولا اسْتُلَ سَيْفٌ: طعام أسوغ من طعام، ووجه أصبح من وجه، وسلك (49) ألين من سلك ).
تُوفي الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، سنة 241هـ.
4 - شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، رحمه الله(50):
( ما يصنع أعدائي بي ? أنا جنتي في صدري.. وسِجْنِي خَلْوة.. ونَفيي سياحة.. وقَتْلي شهادة ).
يقف رحمه الله، جبلاً صامدًا، في وجه التتر، ويلتحم بالجماهير المسلمة في دمشق، متبنيًا لقضاياها، ومدافعًا عنها، وتلتف حوله ثقةً به، ليسجلوا بذلك، مجتمعين ملحمــة جهـــادية خالدة، قال الحــافـــظ ابن كثير:
( وفي مستهل عام 700هـ، وردت الأخبار إلى دمشق، بقصد التتر بلاد الشام، فمادت الأرض بالناس، وطاشت عقولهم، وألبابهم، وبدأوا يتهربون إلى مصر، والبلدان الأخرى، والحصون المنيعة، مما كان بنجوة، عن مَعَرَّة التتر، وغائلتهم، وبِيعَت الأمتعة، والثياب، والمحلات، بأرخص الأثمان... واستعد الشيخ ابن تيمية، لإلقاء المواعظ، والدروس، في الجامع، بنشاط بالغ، وحرَّض الناسَ على القتال، ونهاهم عن الإسراع في الفِرار، وذمَّ هذه الخصلة، ورغَّبهم في إنفاق الأموال، في الذَبِّ عن المسلمين، وبلادهم، وأموالهم، وأن ما ينفق في أجرة الهرب، إذا أنفق في سبيل الله، كان خيرًا، وأوجب جهاد التتر، في هذه الكرة، وسكنت الأحوال بمجالسه المتتابعة في ذلك... فتوقف الناس، وسَكنَ جَأشُهُم، وخرج ابن تيمية، إلى نائب الشام في المرج، وكان مرابطًا خارج دمشق، لمقاومة التتر، وسد سيولهم، فثبَّته وقوَّى جأشَه، وطَيَّب خاطرَه، ووعده بالنصر والظفر على الأعداء، وتلا قوله تعالى : {... ومن عاقب بمثل ما عُوقب به ثم بُغي عليه لينصــــــرنه الله إن الله لعفو غفور } (الحج:60).
وسأله النائب والأمراء، أن يركب على البريد، إلى مصر، ويستحث السلطان على المجيء، فساق وراء السلطان، وكان قد وصل إلى الساحل، فلم يدركه، إلا وقد دخل القاهرة، وتفارط الحال، فاستثار غيرته، وقال له فيما قال: (لو قُدر، أنكم لستم حكام الشام، ولا ملوكه، واستنصركم أهله، وجب عليكم النصر، فكيف، وأنتم حكامه وسلاطينه، وهم رعاياكم، وأنتم مسؤولون عنهم )
وقال أيضًا: (إن كنتم أعرضتم عن الشام، وحمايته، أقمنا له سلطانًا يحوطه ويحميه، ويستغله في زمن الأمن ).
وقوَّى الشيخُ ابن تيمية، جأَشَ السلطان للخروج إلى الشام، مرة أخرى، نتيجة الجهود المخلصة، التي بذلها في هذا السبيل، وتوجهت العساكر إلى الشام للجهاد مع التتر، ولما سمع الناس بذلك، فرحوا أشد الفرح، بعد أن كانوا يئسوا، من أنفسهم، وأهليهم، وأموالهم)(51).
واستمر، رحمه الله ،مجاهدًا في سبيل الله، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، منافحًا عن شرعة الله، حتى سُجن بسجن القلعة، الذي قضى فيه نَحْبَه، وقد رافقه، أثناء فترة السجن هذه، تلميذه البار، ابن القيم، رحمه الله.
تُوفي ابن تيمية، رحمه الله، سنة 728هـ.
المبحـث الرابـع : سيرة أهــل الدعــوة والجــهاد
في العصــــر الحــديــث
وتستمر سلسلة النور هذه، لتشمل أجيالاً، بعد ذلك كثيرة، فأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بتبني هموم الناس، قد حُفظت، بحفظ الله لهذا الوحي، بشقيه، ومن ثَمَّ فهي، تثمر العمل بها ، حيثما وجد المؤمنون، الذين يفقهون خطاب الله، وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم لهم.. وفيما يلي قسم من سِيَر بعض هؤلاء المؤمنين من أهل الدعوة والجهاد، في عصرنا هذا، تُنَثُّ -تُذاع- شهادةً بذلك.
1- الأمير عبد القادر الجزائري، رحمه الله:
( ديننا يمنعنا من طلب الصلح ابتداءً، ويسمح لنا بقبوله، إذا عُرض علينا، بشروط محتَرَمة ).
كان من أكبر علماء قُطْره، وكان رحمه الله، فقيهًا عبقريًا(52)، نزل من صومعة الانشغال بالعلم والتعليم، تحت مقارع الاستعمار الفرنسي، لأن واجب الوقت، يفرض عليه مواجهته، والالتحام بالناس لطرده، فاجتمع العلماء، وأصحاب الكلمة، وبايعوا الشيخ عبد القادر، على الإمارة، والجهاد في سبيل الله، لتحرير أرض الجزائر من الغاصبين، وإقامة الشرع الحنيف... وظل يقارع الاستعمار الفرنسي 17 عامًا، ويرد هجماتهم المتلاحمة، وعندما عُرض عليه الصلح مع فرنسا، أجاب: (إن ديننا يمنعنا من طلب الصُلْح ابتداءً، ويسمح لنا بقبوله، إذا عُرض علينا، وإن المفاوضة، التي تطلبونها، يجب أن تكون مبنية على شروط محترمة، منا ومنكم ).
وكانت أبرز معاركه، عندما حاصر (وهران) منطقة تكتل القوى الفرنسية، حيث استطاع بعد معركة، دامت ست ساعات، أن يحرز النصر، بجيشه القليل، وأسلحته المصنوعة في الجزائر، وقد انتهى الأمر، إلى توقيع اتفاقية: (دي ميشيل)، التي كانت نصرًا للمسلمين، بحيث أصبح الأمير عبد القادر، حاكمًا لمنطقة وهران... واستمر رحمه الله ، مجاهدًا، حتى استحكمت حوله، حلقات الكيد الداخلي، والخارجي، وحوصر حتى نفذت ذخيرته، واعتقل سنة 1847م، حيث نُفي مع أسرته إلى سوريا، وبها تُوفي، سنة 1883م(53).
2 - عمر المختار، شهيد الألف معركة، رحمه الله:
( الإسلام يأبى الخضوع لأهله، والذُلَّ لمعتنقيه).
انطلاقاً من إدراكه العميق لتعاليم الإسلام، بخصوص الانخراط في قضايا المسلمين وهمومهم، وفقهه، أن ذلك من أرقى العبادات، وبعد جهاد طويل، في سبيل الله ، والمستضعفين، دام عشرين سنة، جرت خلالها ألف معركة، يقف عمر المختار، رحمه الله، موقفه الخالد، على عتبات نيل وسام الشهادة، في سبيل الله، من أجل الناس، لدفع الظلم عنهم، ورفع الذُلِّ، عن رقابهم، وتجنيب وجوههم، الخضوع لغير الله، فيقول عقب تلاوة الكولونيل الإيطالي (مارينوني)، قرار الاتهام، يوم 3 جمادى الأولى من سنة 1350هـ (1929م)... وبعد إقراره بكل ما قال: (إنكم معتدون على أرضنا وبلادنا، وإن الإسلام أوجب علينا الجهاد، ضد الغاصبين المعتدين... إنني لم أفعل شيئًا، إلا تنفيذ تعاليم الإسلام، فالإسلام ،يأبى الخضوع لأهله، والذُلَّ لمعتنقيه).. فوَجَمَ القاضي الإيطالي، حين سمع قول عمر المختار، ولم يلبث، أن نطق بالحكم، الذي أعدته الحكومة الإيطالية، قبل المحاكمة، وهو: إعدام عمر المختار شنقًا.. وفي اليوم التالي، سيق المجاهد إلى ساحة الإعدام، وظل يُردِّد الشهادتين حتى قضى شهيدًا -إن شاء الله- وكان ذلك -كما ذكرنا آنفًا- سنة 1350هـ (1929م)(54).
3- الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي ، رحمه الله:
( افعلوا بي ما تشــاؤون، من اليــوم، فأنتم ظالمــون على كل حــال، ولا تنتظروا مني شيئًا، غير هذا).
تخَرَّج من جامعة القرويين العريقة، وتَقَلَّدَ منصب القضاء بمليلية، وقد كان رحمه الله شُعلة من النشاط، في سبيل إخراج المستعمر، من أرض الإسلام.. يُسجن سنة 1915م، بتهمة الميل للعثمانيين، والعمل على الدفاع عن الخلافة، وإلهاب الشعور الإسلامي، ضد (الصليبيين الجدد)، ويُقَدَّم للمحاكمة، أمام مجلـس حربي عســكري، فيـــكون الحوار الآتي:
- الجنرال (أسبورو) رئيس المجلس العسكري: هل تعمل حقًا ضد الحلفاء ?
- الأمير محمد بن عبد الكريم: نعم.
- أسبورو: وما هو سبب ذلك ?
- محمد بن عبد الكريم: لأن الدولة العثمانية، دخلت الحرب، باعتبارها دولة الخلافة الإسلامية، وهي تقف بجانب ألمانيا وأستوريا، وأنا مسلم مراكشي، والخليفة نادى بالجهاد ضد الحُلفاء ، لتحرير بلادنا، التي تحتلها فرنسا وإسبانيا.
- أسبورو: وما هي علاقتك بالخلافة ?
- الأمير محمد بن عبد الكريم: إنها خلافة المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، لذلك فأنا معهم لنحارب الحلفاء...
- أسبورو (ضاحكًا): أنا أعلم، أنك رجل نبيل، ومن أسرة نبيلة معروفة، ولكن ألا تعلم أن دولة إسبانيا ملتزمة الحياد، وأنت قاضي القضاة في منطقة الحماية ?
- الأمير محمد بن عبد الكريم: هذا لا يمنعني من القيام بواجبي، وأنا أرى كثيرًا من ضباطكم، يتعاملون مع الألمان الموجودين هنا، لتغذية الحرب، ضد فرنسا، بجانب تركيا، ثم إذا كانت الوظيفة، تمنعني من القيام بالواجب، فأنا مستقيل من هذه الوظيفة، منذ الآن، لأتفرغ للقيام بالواجب المُحَتَّم عليَّ)(55).
وبعد خُروجه من السجن عدة مرات، بدأ بمحاربة الإسبان، فكانت موقعة (أنوال) الشهيرة، التي أبادت فيها الفئة المسلمة الثابتة، المكونة من ألف مجاهد فقط، جيشًا مكونًا من خمسة وعشرين ألف جندي.. واستمر رحمه الله على هذه الحال، حتى أُسر سنة 1926م، إثر مؤامرة مزدوجة، بين فرنسا وإسبانيا، ونُفي إلى جزيرة (رينيون)، وتَمَكَّن من الهرب، أثناء الطريق، بمساعدة بعض الغيورين، فأقام بمصر حتى تُوفي رحمه الله(56).
إن أحدًا يريد وجهَ الله، والدَّارَ الآخرةَ، لن يحيط، عِلْمًا بتعاليم الإسلام في هذا الباب، إلا ويجد نفسه ملزمًا، بالوقوف في المواقف، التي وقفها هؤلاء المؤمنون الأعلام، بفضل تَشرب قلوبهم، لهذه المعاني، وإيمانهم بموعود الله.
فلم يزل الإسلام، هو الحارس الأعتد، لمصالح الناس، حيث ما وُجدوا، ومتى ما وُجدوا، حقًا، وصدقًا، وعملاً، وبَذلاً، لا تَبجحًا وقيلاً، ومزايدةً وادعاءً، كما هو الحال، بالنسبة لكثير من المبادئ، التي أقامها أصحابها في هذا المقام، فانزلقت منه، إنْ بسرعة، أو ببطء، كما ينزلق الجليد من القمم، وتثبت الجلاميد............. http://library.islamweb.net/newlibrary/display_umma.php?lang=&BabId=5&ChapterId=5&BookId=249&CatId=201&startno=0 | |
|