(...وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً) بقلم : د زغلول النجار - التاريخ : 2012-01-10
بسم الله الرحمن الرحيم
من أسرار القرآن
( 408 ) (...وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ *)
( الحجرات : 12 ) .
بقلم
الأستاذ الدكتور: زغلول راغب النجار
هذا النص القرآني الكريم جاء في ختام الثلث الثاني من سورة "الحجرات" , وهي سورة مدنية وآياتها ثماني عشرة (18) بعد البسملة , وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى ضرورة المحافظة على حرمة بيوت النبي – صلى الله عليه وسلم – بصفة خاصة – وعلى حرمة بيوت الناس – بصفة عامة – وهو من الأوامر الإلهية التي لا تجوز مخالفتها أبدا .
ويدور المحور الرئيس لسورة "الحجرات" حول عدد من القيم الأخلاقية والسلوكية الواجبة في تعامل المسلمين مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومن ثم مع بعضهم البعض , ومع خلق الله أجمعين , ولذلك وصفت سورة "الحجرات" بوصف "سورة الأخلاق" .
هذا وقد سبق لنا استعراض هذه السورة المباركة , وما جاء فيها من التشريعات , وأوجه الإعجاز في عدد من تلك التشريعات , ونواصل هنا شرح وجه الإعجاز التشريعي في النص الذي اخترناه عنوانا لهذا المقال .
من أوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم
يقول الله- تعالى- في محكم كتابه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ *) (الحجرات:12).
وقد ناقشنا في مقال سابق تحت البند أولا: الإمر الأول في هذه الآية الكريمة الذي (ينهى عن الظن السيئ بأهل الخير من عباد الله المؤمنين) أفرادا وجماعات, وحكاما ومحكومين, دون دليل قاطع أو إمارة بينة وسبب ظاهر, وذلك حتى يحيى المجتمع المسلم في جو من العدل واحترام كرامة الإنسان ولحقوقه, وفي شئ من الراحة النفسية من التوتر الذي قد يصيب النفس الإنسانية بكثير من الشقاء إذا عاشت في حالة دائمة من الشكوك والريب والخيفة والتوجس دون مبرر.
ونناقش هنا الأمر الإلهي الثاني الذي جاء في هذه الآية الكريمة على النحو التالي :
ثانيا : النهي عن التجسس:
ويقال في اللغة (جس) , و (تجسس) و (اجتس) الأخبار أو الأمور أي بحث عنها وتفحصها . وعلى ذلك فإن (الجسيس) وجمعه (أجسة), و (الجاسوس) وجمعه (جواسيس) هو الذي يتجسس الأخبار , ثم يأتي بها . و (الجاسوسية) هي مهنة (الجاسوس) وهي منظمات تؤلفها الدول للتجسس على الآخرين ونقل الأخبار لها , واستطلاع الأسرار التي يمكنها الاستفادة بها.
والتجسس قد يكون الحركة التالية للظن السيئ, وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات, والاطلاع على السوءات. والله- تعالى- يأمر عباده المؤمنين بالبعد عن هذا العمل الدنيئ, وغير الأخلاقي لأنه يقوم على تتبع عورات الآخرين, في محاولة للكشف عن سوءاتهم. والأصل في الإنسان هو النقص وعدم الكمال, لذلك فإن كل إنسان يحاول ستر جوانب النقص في ذاته. وهذا لا يجيز لإنسان آخر أن يدفعه فضوله إلى محاولة التجسس على اخيه من أجل الكشف عن تلك النقائص, ونشرها بين الناس, مما يتسبب في جرح مشاعر صاحبها, كما يشجع على إشاعة النقائص والبغضاء في المجتمعات المسلمة على غير هدي الله. لذلك يؤكد الإسلام العظيم على ضرورة صون أعراض وحرمات الناس, وكراماتهم, وحرياتهم في المجتمع المسلم, وعلى ستر عوراتهم قدر الاستطاعة فلا تنتهك في أي صورة من الصور, ولا أن تمس بأي حال من الأحوال حتى لا تشيع الفاحشة بين المؤمنين. ففي المجتمع المسلم يجب أن يعيش الناس آمنين على أنفسهم, وعلى بيوتهم, وعلى أسرارهم, وعلى عوراتهم. لذلك حرم الله- تعالى- التجسس بكل أشكاله, وأمر بحماية حرمات الأنفس والبيوت والعورات. وبتحريمه- تعالى- التجسس فإنه يحرم كل مبرر أو ذريعة تكشف عن عورات الناس حتى في تتبع الجرائم وتحقيقها. فالناس في الإسلام يجب أن يؤخذوا على ظواهرهم, وليس لأحد أو لسلطة – أيا كانت – أن تتعقب بواطنهم, أو أن تحاول الكشف عن عوراتهم تحت أي ذريعة من الذرائع. حتى في حالات المخالفات والجرائم الشرعية منها والمدنية لا يجوز التجسس بذريعة الكشف عنها, وكل ما للسلطات الشرعية من حقوق هو أخذ المجرم بجريمته الواقعة الظاهرة البينة دون تجسس أو تتبع للعورات, مع الضمانات التي ينص عليها الشرع بالنسبة إلى كل جريمة من الجرائم. فعن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال : " إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم " (أبو داود).
وقال: " من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها " (أبو داود, والنسائي).
وقال : " يا معشر من آمن بلسانه , ولم يفض الإيمان إلى قلبه : لا تغتابوا المسلمين , ولا تتبعوا عوراتهم , فإنه من يتتبع عورة أخيه يتبع الله عورته , ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته " (الحافظ أبو يعلى).
وقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- "لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا, وأنت تجد لها في الخير محملا".
وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنه قال: " إنا قد نهينا عن التجسس , ولكن إن يظهر لنا شئ نأخذ به ".
وعن مجاهد- رضي الله عنه- أنه قال : " لا تجسسوا , خذوا بما ظهر لكم , ودعوا ما ستر الله " .
وهكذا صار هذا الأمر الإلهي سياجا حول حرمات الناس, وحرياتهم وحقوقهم, فلا تمس من قريب أو بعيد تحت أي ذريعة من الذرائع, أو مبرر من المبررات.
وفي ذلك قال الإمام الشافعي- رضي الله عنه- :
إذا شئت أن تحيا سليما من الأذى وحظك موفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايبا فصنها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى وفارق ولكن بالتي هي أحسن
ومن هنا يظهر وجه الإعجاز التشريعي في تحريم التجسس بين المؤمنين, بمعنى ضرورة الأخذ بما ظهر منهم, وعدم تتبع عوراتهم ومعايبهم , أو محاولة التعرف على ما ستروه من أمورهم , وعلى الخاص من أخبارهم, فإن في ذلك إساءة لهم, وإشاعة للفاحشة بين المؤمنين وهو ما نهى الله- تعالى- عنه. والله يقول الحق , ويهدي إلى سواء السبيل, فالحمد لله على نعمة الإسلام والحمد لله على نعمة القرآن, والحمد لله على بعثة خير الأنام سيدنا محمد النبي العربي الأمين, فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.